ذاكرةٌ على بابِ مقهىً/ بقلم: محمد عبد الله صالح
___________________
(1)
في المقهَى
حيثُ ترى خلفَ النَّوافذِ الزُّجاجِيّة
أعباءَ المارِّين يمْشُون بمحَاذاتها
رجل يُخرِج من جَيبِه أَحزاناً بحَجم قَارّةٍ
لا يَرى أحداً سِوى رفاقَهُ المجهولينَ مثلَه
قد يصطدمُ بعمودٍ فتخرجُ دماؤُه
وامرأةً تحدِّثُ النَّاس عن ظُروفِها ٱلحياتيَّةِ
وعن روشتَةٍ لطبيبٍ لا تملكُ جنيهاً واحداً لثَمنِها
قد يتعاطفُ معَها البعضُ
وقد يَغضُّ ٱلطَّرَف كَثيرونَ
وطفلاً يمسِك حزمةَ مناديلٍ ورقيَّةً
يسأل الإشَارات عن شِراءئَهَا
وآخرَ يُقلِّد يدَه قماشةً مبلَّلةً
يُنظِّف بها زجَاج السَّياراتِ
طمَعا في إرضاء فضولهِ
لِمعرفَة مذاقِ المُثلَّجات
ٱلَّتي تقفُ أَوّل الشَّارعِ ٱلجانبيِّ
(2)
خلف النَّوافذ حقائقُ لا تمثِّلُ لجملةٍ كاذبةٍ
الناسُ سعاةٌ على رِزقهِم
لا يُخفُون شيئاً
ترى أحاديثَ جانبيّةً عن هزائمَ جديدةٍ
وبسطاءَ يَمدُّون أَكفهم
يُقلِّبُون صناديقَ القُمامةِ
ربَّما تُسعِفُهم اللَّحظةُ
ويَجدونَ طعاماً شهيّاً
بنتٌ تقِفُ أَوّلَ ٱلشّارعِ
لا تسلَمُ من لسانٍ يلوكُ لها المكائِدَ
ربَّما تمتدُّ يَداهُ لمُضايَقةِ
فُستانِها الفضفَاض القادمِ معَها لحِراسَتِها
قد لا تَجدُ قراراً من أحدٍ
لصدِّ حماقةِ ذاك المتطفِّلِ
اللافتاتُ أيضاً لا تُلقي بالاً لٱستِغاثَتِها
(3)
في ٱلمَقْهى
لن تكون وَحيداً ومنسيّاً
مئاتُ ٱلذِّكرياتِ قد تطلُب مِنك فنجاناً من ٱلشَّاي
وقد تمدُّ يَدها لتُشاركَ السَّجائِر معك
بينَما عجوزٌ يقلِّبُ جريدتَه
بحثاً عن أشياءَ لا يرَاها غيْرُه
ليسَ دُخاناً ما تراهُ
يصعَد ساحباً معهُ أَنفاسكَ المخَبئَةَ
بل هيَ مُعاناةٌ طويلةٌ
لإفراغِ ٱشتِياقِك لجلسةٍ هادئةٍ
قد يَلفتُ ٱنتِباهَك النَّادلُ
بصوتِه الجهوريِّ وهو يُلبِّي نداءً لآخرينَ بجواركَ
(4)
في ٱلجِوار ترَى رجُلاً
يُخرِج غيظَ دخَانِه
فتَختَفي ملامِحُ السَّقف
يعاوِد الكرَّة كلَّ مرَّةٍ
غيرَ مكترِثٍ بنظَراتِ ٱلزَّبائِن ٱلمُتسائلةِ
هنا لَا شيءَ يناسِبُ المكانَ ولا الزمانَ
كلٌّ يُفرِغ حقيبَةَ همومِهِ على الطَّاولةِ
قد يَأخُذُ وقتاً طويلاً في تفَقُّدها
ربما غافَلَهُ شيْءٌ منْها وفرَّ هارباً
(5)
في ٱلمقهَى ..
ترَى كلَّ شيءٍ هادئاً
جُدرانهُ ٱلأثريَّة تُلمْلِمُ فُتات ٱلجالسِينَ أمامَها
تَستمعُ لهُم وتحفَظُ ملامحَهم
تَشتاقُ لهم
وتنظُر إليهِم بلهفةٍ وهم ساعِون لها
تجِيدُ ٱستقبالَهم برحابةٍ وحُبٍّ
لمَا بينهُم من علاقةٍ قديمةٍ
قد تبْدو الأَشياءُ عاديةً وباهتةً
هكذا نرَاها من أَوّلِ وهلةٍ
لكنَّها تخبِّئُ الكثيرَ منَ ٱلمُتَناقِضَاتِ….