الرئيسية / آراء قكرية ونقدية / كريمة عيساوي جَمْرة قَصِيد مَخْبوءة في أَرْمِدَة المساءات (بورتري)/ بقلم: حسن بيريش

كريمة عيساوي جَمْرة قَصِيد مَخْبوءة في أَرْمِدَة المساءات (بورتري)/ بقلم: حسن بيريش

    بورتري كريمة عيساوي

        جَمْرة قَصِيد مَخْبوءة في أَرْمِدَة المساءات

بقلم: حسن بيريش

ــــــــــــ

(1)

“وحدي تَتَفحصني العيون

أمام نوافذ مشرعة”.

بِجماع البَنَانِ يُشَارُ إلَيْهِما، اسمها وَوسْمها، حرفها ومعناها،

رؤاها ورؤياها، حضورها وغيابها… ثُمَّ ما شاء لها صِيْتُها من ثنائية شِيَم، هي بها أَجْدَر، لها تَتَّسِعُ. وما شاء لنا تقديرنا من جميل ذِكْر لُبّ مَحاسِنها، ووافر الثَّنَاءِ عَلَيْها، نحن بهِما نغزُر عَمِيما، ونغتبط أَكْثَرَ.

إنها، لا غيرها، كريمة نور عيساوي، هذه المُتَعَدِّدة في ثراء الكتابة، الغَزِيرَة في الأَشْكَالِ الأدبية، المُتَنَوِّعة في طرائق السَّلاَسة، والمَأهُولة بغير المُتوقَّع.

سَلُسَ في يدها الحرف،

لانَ في تفكيرها المنطق،

سَهُلَ إزاء إقدامها الصَّعْبُ،

وانقادَ لتوثُّبها جماع المهارات.

من أَيِّ مُقترَب جئتها تجدها نَضّاحة بالاستثناء. تكتشف أنها غَيْمَة حُبْلى بمُزْن، هو الْغَيْث في يباب الوقت. بعدها ترى في شُمُول مسيرها طموح لا يُغالب. دَأْبها الدائم اقتحام أَعْوَص اللُّجَّة في سفن الأبجديات المشحوذة، والمسكونة، بشوامخ الاطِّلاع. ودَيْدَنها المزمن اِعْتِلاءُ كُلّ الصَّهْوَات المتسامقة نَحْو مدارج الضَّوْء.

“الهجر إثم في بنود النثر،

يُؤرقني هذا الحرف المسهد

في حضن عرجون الاختناق

صُلبت الأمنيات على وتر البعد

هيامك انسل

من بُردة الذاكرة

واستوطن الحنين”.

(2)

“الآن

أعلنها صرخة….

مدوية…

أغلقت سفر قلبي،

وأضعت المفاتيح في البحور اللُّجِّية”.

يوم حدث تَماسّ شاسع، ولذيذ، بيني وبين البهاء الماثل في رباعيتها الشعرية “صهيل من فلوات الأرواح”، “بقابا امرأة”، “خلف النافذة”، و”رذاذ من شفاه البوح”، وجدت غبطتي في حَضْرَة شعر يتَحَرَّر من كُلّ سلطة خارج سلطة ذات تنكتب في غسق دخائلها.

“أيها القابع في داخلي تحرر…

احملني واقذف بي من قراري

أبعدني عن زماني”.

أبدا لم يبالغ، الشاعر العراقي هاتف بشبوش، حين قرأها من خَبْء باطنها النائي، ثُمَّ حَلَّلَ المختفي في ممكناتها الدانية، ووصفها بعبارة جامعة مانعة، بتعبير المناطقة:

“ساطعة في الأناقة الشعرية،

ومُرصَّعة بالحب،

تتوسَّد على القصيد في صِعَابها”.

(3)

“كم من ذاكرة نسكن

عندما نمارس فعل الكتابة ؟”.

تتساءل كريمة ببراءة اليد المبدعة، بمكر حبر العبارة، بينما قلبها الولود، بينما مخيالها المتوثب، يُرتِّلان، معا، ما شاء لهما هواهما المجازي، آيات بينات من سُوَر سُهْد الليالي. من تَأْريق الجفون. من تَعَاويذ البلاغة الموشومة بحسن توقيت تنزيل غبطة الكتابة.

إنها – هذه المَوّارة بشغاف الفصاحة – لا تسأل حَتَّى لا تخبو لواعج التدوين. إِنَّمَا هي تضع طُعما ما في صنَّارَة الإغواء، كي أسقط أنا / أنت في فِخاخها، ونقترف، معا، جوابا فادحا عن مكتوب يعلو على أيَّما سؤال، لاسيَّما ذاك الذي يأتي من لدُن كاتبة أقامت في الكلم وكبرت!

“اختراع فعل الكتابة

حفظ لنا تاريخا ممتدا وذاكرة كبيرة

غيبها النسيان وطول الأمد”.

لذا، من باب رفع كُلّ حرج عن الألسنة، لا تسألوا كريمة نور عيساوي ذاك السؤال الفضولي جدًّا: “لماذا تَكْتُبِي؟”. لأنها ستجيب بسؤال آخر مباغت: “ما الهدف من الكتابة؟”. ثُمَّ ستتفصَّد عُمْقا، وتعاود الارتفاع بعلامة الاستفهام: “هل الكتابة ترف فكري، أم سلطة ضرورية؟”.

“كُلّ هذا الزخم من الأسئلة

قفز لرأسي

دون أن أفلح في العثور على

جواب شاف أو رد قاطع”.

(4)

“إن الكتابة بوصفها ترميزا للغة منطوقة

في شكل خطي على الورق،

تُشكل حيرة حقيقة بالنسبة للذين

لا يعرفون القراءة والكتابة”.

إِنَّ كريمة تزاول فعل الكتابة باعتبارها وسيلة حياة، وليس بحسبانها سبيل تواصل فقط. وهنا، يتحول فعل اليد الكاتبة إلى فاعلية العين الرائية. ثُمَّ يغدو التعاطي أكبر من الإدمان نفسه. وإذا كان قلمها، موئل ارتفاعها عن كُلّ المألوف، لم تَزِلَّ قَدَمٌ له بَعْدَ ثُبُوتِهَا، فإِنَّ حبرها الثَرّ لم يتَخَلَّ عن أَبَديَّة ما فيه من اِكْتِنَاز، سواء انصهر في أُتُون قصيد، أو فَتَّش عن أطياف تاريخ أديان، أو صَوَّبَ تأويله نَحْو حوار حضارات.

“سلطة الكتابة

قد تفوق سلطة الحاكم.

وليس صدفة أنَّ الحاكم نفسه

تَنبَّه مبكرا لقيمة الكتابة،

فقرَّبَ الكتبة منه لتخليد تاريخه،

وتسهيل تسيير دواليب حكمه”.

انطلاقا من “السلطة الرادعة والقهرية لفعل الكتابة”، كان لها ما أراد توثبها من سيادة الأقاصي، وسيادة النفائس، على إِنَّ الكتابة وَأَخَوَاتُهَا. أَوّ لَيْسَت هي الماهرة، المُتَمكّنة من تَأْثيث وعي مُخيِّلنا بكثافة التعبير، ذات اليد الجائعة إلى كُلّ رواء الكتابة، والفؤاد المُولَع بصبوات الأحْبَار ؟!

“فعل الكتابة

لم يقف عند حدود نقل

ما يجول بخلد الكاتب،

بل غدا وسيلة من وسائل

التأريخ وتخليد الذات”.

(5)

“هذا الهواء البارد

يَتنفسني من غير زفير

يَعصرني نبيذا في قعر الزجاجة

وقد نحر عنقها…”.

منحتني كثير وصالها الشفيف، كغَيْمَة حُبْلى بسرائر الماء، قصيدتها المغوية، المطواع في تشكيلها الصوتي والنغمي، التي تجلو محاسن المباشر، والموارب، وتتَمَوَّج حُرَّة فوق كتفي الدوال. في أَقَلّ هذا المنح، عثرت على أَكْثَر عطاء فيه، وبه، استلانت تآويلي لها.

“هذا الصباح لا يُشبهني..

المطر خجول والنخلة تُمشط سعف الملل

لا أحد يبصم خطواته على الطريق

الشارع يتمشاه الفراغ

وأنا أتكوم في فنجان قهوتي…

من دون أن أتمدد على جنبات الطاولة

أو أُحمل في حقيبة جلدية

هي أتعابي تستعصي عليّ

لا تَكْتُبني حروفها قصيدة”.

بواسطة لون نَضِر، وَوفقَ مشي مَيّاس، يرفل قصيدها في ثَوْب لغوي قَشِيب، ينسدل بهاؤه بلا عائق. يتَراءَى وَجِيبه في غير مُوَارَبَة. هكذا أَرَاها أنا تخْلُدُ إلى اتِّقاد دواتها، مثل جَمْرة مَخْبوءة في أَرْمِدَة المساءات.

على دوام قراءتي لها، المشحوذة بوابل إفصاحها عن ذاتها الطّلعة، برحيب تعبيرها عن كينونتها المسترسلة في جماع روحها الوهَّــاب، أستعيد، من معابر مسودات نسياني في بياضات ذاكرتها، قولة أوفيد:

“الإفضاء بغوامض الأسرار

من أجمل وأكبر النِّعم” !

(6)

“القلب في سفر”.

لا أدري لِمَ كُلَّما تَسَلَّمَ وعيي البلاغي فَحَاوَى بنيتها اللغوية، في امتداد حقولها، في لهيب نسوغها، وفي شسع دوالها، أستحضر مقولة الكاتبة القديرة نجاة المريني: “أن نصرخ بأناملنا”.

“لن أمشي على الصدر اليانع

وأستسلم…

دعني…

دعني…

أخضب أيامي بألوان التعب

علها تصيرني زنابق من نور….

أستجمع ترياق الوجد”.

عَبْر وَريف الكاف يتَمدَّد مَكْمَنُها. في شهوة الراء ترتعش مَسَامُّ جملتها. على دوران الياء تملأ آبار خواء الزَّمن. إزاء طول الميم تَتسَلَّقَ قِمَّتها. وبخفق نقطتين فوق دائرة التاء، وَلَجَ دَلْوها مَظَانّ الرُوَاء، مَظَانّ الإرْتِوَاءُ. بهذا البذخ تَتلَأْلَأُ حروف اسمها، وتنْدَاح لآَلىءُ بيانها.

“اقتربت مني أخذتني من يدي

استلقينا فوق سرير الرؤيا

أربعون سنة من التِّيه العظيم

اليوم أَحِنُّ لأناي القديم،

طرقنا ديجور البرايا

ولجنا أفول شروقي

وجدت حروفي القديمة

توسدت حجرا في كهف الغياب”.

(7)

إِنِّي لأُجادُ إِلى لقائها،

اللغة المضيئة الكريمة لكريمة نور !

مثل رنين الأساور في أماسي الذهول، تلبس كريمة نبض

لغتها الفَوّارة، وتتدَفَّأ بحطب بديعها. أراها فِي كُلّ جملة لا تعتنق إلا دين مجازها. أحَدِّقُ جَيِّداً فِي تلك اللَّوْحَةِ البلاغية الفاتنة، التي ترسمها فرشاة مخيالها، فتدخلني فيها أعمق، أَكْثَرَ. أمْعِنُ النَّظَرَ فِيه، هذا الاستخدام اللغوي المشبع بإغواء الحواس، فأُساقُ، وأشْتاقُ !

“ذرني أرفل في صرحي

أرنو إليك…

وأنت…

على عرشك المهزوز

تجلس رافعا عنانك للأرض،

تبحث عن ملكة ورقية

نجمة حرفها عاقر

في عكاظ الحياة…”.

إِنَّ موفور التناص، الذي تقتنصه الشاعرة بتَمَكُّن ماهر، يَشِي بزخم ولود في رؤيتها اللغوية. لذا، لم يكن غريبا أن يتَبَدَّى لي ديوانها “بقايا امرأة”، نموذجا جِدّ رائع للتناص مع بلاغة القرآن، وسُمُوّ معانيه الخبيئة.

إِنِّي أرى – بلا ظنون – أن الناقدة الفرنسية الشهيرة جوليا كريستيفا، كانت تعبِّر عن الصَّنِيع اللغوي للمبدعة الجياشة كريمة نور عيساوي، حين قالت: “النص جهاز نقل لساني يعيد توزيع نظام اللغة”.

“أنا المعلقة بحبلي السري

تهزني رياح الخماسين

أنتظر قدوم غيث السماء

أنشد اشتعال ربيع البوح

على أبواب مواسم الحصاد”.

إِنِّي إذا غادرته، شعر كريمة،

اِسْتَدْرَجَني إلى افتقاده.

كُلَّما أخذ يراعها القلَمَ، كُلَّما غَمَسَه في الدّواة، تَبَدَّت كريمة، في عين القارئ، شاعرة من رواء، وامرأة من نور، يصعب التنصُّل منها. لأن انهمارها يبقى عالقا بالذاكرة، لأن حَاسَّتها العالية أبدا لا تسحبك نحو النسيان.

ثمة في قصيدها أشياء ما، كم عسير تفسيرها. إنها تغدِق من أبجديتها، تعبق من بعيد، شاعريتها الناضرة، وإذا منها أنت اقتربت، انتشر، وتضاعف، منسوب الطِّيب.

“ذرني أرفل

في صرحي”.

الآن، في هنيهاتها هذه، التي يكتبها فؤادها بكُلّ رضاه، في لحظاتي المنتشية هذه، التي أنكتب فيها بجماع رضاي، وضعت انسكابها جانبا، وانفردت بكامل دهشتي.


عن Xalid Derik

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

x

‎قد يُعجبك أيضاً

نزل المطر/ بقلم: آمنة بريري

نزل المطر   فاصطبغ الكون بالصفاء والسموّ   وسرت نسمات شذيّة تلامس ...

على نكْءِ الجراحِ أرشُّ مِلحاً / بقلم: عبدالناصر عليوي العبيدي

ولــي قــلبٌ تعاندُهُ الصّروفُ ونــهرُ الــحادثاتِ بــه يحوفُ – إذا تــركَ الــرَّبيعُ ...

غزة غزوات / بقلم: عصمت شاهين دوسكي

منى النفس غزواتها وحدها على كبد شروخها راع الصدود عادة حملت الوهن ...

غزة الأمة وأمة غزة/ بقلم: خالد السلامي

منذ نكبة فلسطين في ١٩٤٨ تلك السنة العجفاء بل وقبلها حين بدأ ...

الظل والقرين/ بقلم: فاطمة معروفي

قصيدة من ديوان “نفس الماء” ضوضاء الصمت…… من حولي تكبل نقطي تمسح ...

أسمال الفزاعة البالية للشاعر بادماسيري جاياثيلاكا / ترجمة : بنيامين يوخنا دانيال

هايكو ( 1 ) أسمال الفزاعة البالية يسحب الحباك خيوطها * من ...

في الجهة الأخرى من الخديعة / بقلم: سالم الياس مدالو

  في الجهة الاخرى من الخديعة تفرك الغربان باجنحتها الشوك العوسج والحنظل ...

حلبجة الجريحة / بقلم: عصمت شاهين الدوسكي

  هلموا اسمعوا هذا الخبر نبأ اليوم قد تجلى حضر من قريب ...

واحة الفكر Mêrga raman