الرئيسية / آراء قكرية ونقدية / تحليل التعدد الإيقاعي في قصيدة “بلا أثر” للشاعر الفلسطيني: صالح أحمد كناعنة/ بقلم: عبد العزيز عسير الصافي

تحليل التعدد الإيقاعي في قصيدة “بلا أثر” للشاعر الفلسطيني: صالح أحمد كناعنة/ بقلم: عبد العزيز عسير الصافي

 

 

 

 

 

تحليل التعدد الإيقاعي في قصيدة “بلا أثر” للشاعر الفلسطيني: صالح أحمد كناعنة

بقلم الباحث والناقد العراقي عبد العزيز عسير الصافي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عبد العزيز عسير الصافي

( تعاقب البحور )

من نصوص الياسمين نقف عند نص ( بلا أثَر )

للشاعر صالح أحمد (كناعنه) القصيدة التي اكتملت بنيتها بمقاطع طويلة متماثلة… تعاقب في كل منها أكثر من بحر تلبية لحاجة إيقاعية سنحاول الكشف عنها :

يقول في المقطع الاول :

هم يكتبونَ الأمرْ

لا يَعبرونَ النّهـرْ

مَن يُهد روحي غِمرْ

مِن بارِقاتِ الصَّبرْ

أمنَحهُ سِرَّ السِّرْ

سِرًا وعُذرَ العُذرْ

.

لا صبرَ لا مَوّالْ

لن يعشَقَ الأطفالْ

يومًا سلالَ الجوعْ

 

أحمد صالح (كناعنة)

في الشعر الحديث تداخلت البحور المتناغمة التي تشترك بتفعيلات ( ما قبل الضرب) … ولم يعد رواد الحداثة يخضعون لما فرض عليهم العروضيون من قوالب مقننة صارمة تفارق بين البحر و الآخر … وفي بعض نصوص السياب نجد تداخلا بين الرجز والسريع .. و لا نظن الأمر يخفى عليه … بل هو يعي الحالة تمامًا … ذلك لأن ثورة الرواد الإيقاعية تخطت الكثير من القوانين الصارمة التي أقرها اتباع الخليل …. و بحس إيقاعي يستجيب لواقع العصر الذي اختلف فيه الكثير عن التراث دونما انسلاخ تام كما حصل في المرحلة الثانية للثورة الإيقاعية وهي (قصيدة النثر ) .

أقول هذا لكي يعذرنا الإخوة بتحديد اسم البحر خاصة إذا كانت وجهات النظر مختلفة أحيانًا باحتساب تشكيلات الأشطر … وعلى أي بحر هي ؟

 

في نص صالح احمد تطالعنا أشطر قصيرة جدا من تفعيلتين يشترك بالأولى الرجز والسريع …ولكن الثانية التي يسميها العروضيون ( الضرب ) هي التي تحدد كون النص من السريع لا الرجز .

الثانية هي ( فعْلانْ ) بسكون العين والنون الأخيرة :

هم يكتبون الأمر ْ

لا يعبرون النهر ْ

 

وهكذا بقية أشطر المقطع كلها على وزن ( مستفعلن فعلان )

وبها نجد ضربات إيقاعية صاعقة متماثلة مع طرقات المطرقة الحادة الصادمة للسمع .

هذه الحدة تاتي من خلال توالي حرفين ساكنين وهما حرفان صحيحان ..أي …لم يكن أحدهما حرف مد يرطب الإيقاع … حرفان مما يعرف بالانجليزية ب

( consonants voice )

لا ( Vowels voice )

 

والقارئ الكريم يدرك أن طراوة حرف المد ( حرف العلة) مختلفة عن صلابة ما يسمى بالعربية بالحرف الصحيح .

ومع ان العروضيين التقليديين يقابلون بالتفعيلة نفسها ( فعلان )لحالتين متفارقتين تماما فإن الذي يتلقى الإيقاع يحس بفارق كبير بين قولنا مثلًا :

( بالوصْل ْ — بالبال ْ )

لتصلب بالأولى و ليونة بالثانية … مع ذلك فقوانين العروض تعبر عن الإثنتين ب ( فعلان ) .

وعليه فأن من الصعوبة التعامل مع تشكيلات المقطع الأول ثم الثاني بقوانين العروض نفسها :

لا صبر لا موال ْ

لن يعشق الاطفال ْ

يوما سلاح الجوع ْ

 

المقطع الثاني مختلف إيقاعيا عن الأول تماما … مع أن التشكيلة العروضية التراثية واحدة …والبحر واحد … بالقوانين الخليلية .

 

ما يهمنا هذا الالتفات الايقاعي … و هل جاء اعتباطا أم استجابة لمغايرة أملتها الضرورة لتفارق بين النغمتين صلابة… و ليونة ؟

المقطع الأول بأشطرة الستة الموزعة على ستة اسطر جاء بصوت ما … و الأشطر الثلاثة الأخرى جاءت بصوت آخر .

 

الأول (صوت الراصد ) … راصد يوثق ما يحصل على الارض من مآس…ثم يفصح عن ردة الفعل بأعماقه لهذه المأساة … مع شيء ثالث أيضا … أنه يتطلع إلى المواساة :

من يهد روحي غمر ْ

من بارقات الصبر ْ

امنحه سر السر

سرا وعذر العذر

 

هذا ما نتمثله في المقطع الأول :

( رصد … أوجاع … استغاثة )

 

المقطع الثاني القصير الممهد لما بعده ( الثالث) يأتي

ب ( صوت الانسان المخذول ) الرجل الوطني العائد خائبا بعد بارقة من أمل لاستجابة لم تتحقق … و صبر تأمله وعوّل عليه لكنه لم يحضر ….. و ترقب لموّال لم يُنشد :

( لا صبر لا موال

لن يعشق الاطفال

يوما سلال الجوع )

تطلع لثمرة لم تمنح … ومرارة تحديقٍ بسلال فارغة ممتلئة بالجوع .

 

ثم تأتي (صرخة النقمة ) ( صوت الاحتجاج الثائر ) باعلى نبراته المواجهة للاضطهاد .. و غير المستسلمة .

هنا كان لا بد ان تتبدل النغمة … يتبدل البحر … يتدفق الإيقاع موصولا بنمط إيقاعي مختلف…. أنه شكل آخر من أشكال القصيدة الحديثة الذي عُرف ب ( القصيدة المدورة ) … وعلى بحر يلائم حالة السرد .

يتدفق الإيقاع موصولا على البحر الكامل و بتشكيلة طويلة جدا على تموجات القصيدة المدورة … وبنفَس طويل…. انه نفَس الناقم المحتج على ما يجري من مآس :

 

(( وإذًا.. فإنّ اللّيلَةَ الشّمطاءَ لم تَرحَل، ولم تَحبَل غيومُ الصّمت بالمأمولِ مِن صَيفٍ يُشارِكُنا ظَمانا… فاكتَسَينا خِبرَةَ الأحوالِ، والتّجوالِ في صَمتِ السّرايا والقَرايا.. فالعيونُ السّودُ لم تُكرِم سِوانا حينَما كانَ الحَديثُ عنِ المَذابِحِ في القَمَر …))

 

تشكيلة طويلة جدا نتلقى الايقاع فيها متدفقا وموصولا باثنتين وعشرين تفعلية ( متفاعلن ) مع جوازاتها الزحافية المالوفة في الكامل والتي لا يهمنا الخوض فيها او تحديدها باجمعها بقدر ما يشدنا اليها من امتداد ايقاعي استطال استجابة لنَفَس هذه الصرخة الطويلة التي يطلقها ( هدير الثورة ) المتماوج بموجات صوتية تملأ الاثير .

 

هذا التدوير الطويل كان التفاتا ايقاعيا من بحر الى اخر . .. ولم يأت اعتباطا … بل افصاحا عن تعدد الاصوات في القصيدة الواحدة .

 

و معلوم ان( القصيدة المدورة) قد بدات بنهي للناقدة نازك الملائكة … نهي عن تجاوز الحد الاقصى لبيت الشعر العربي التراثي والمحدد بثماني تفعيلات … وكلنا يعرف ردة فعل الشعراء على هذا النهي … و الانسان ؛ بل… الشاعر الانسان (حريص على ما منع ) كما يقول المثل السايكولوجي .

 

تستمر المقاطع الاخرى في قصيدة الشاعر صالح احمد بالبنية الايقاعية نفسها … اذ تتشكل هذه البنية بثلاثة مقاطع للجزء الواحد … و يباين الشاعر بين هذه المقاطع الثلاثة بالمفارقة البنائية نفسها … وعلى النحو الذي بيناه :

 

( ستة اشطر قصيرة على السريع )

ثم ( ثلاثة اشطر قصيرة على البحر نفسه )

ثم (تشكيلة مدورة طويلة جدا على البحر الكامل ).

 

شيء واحد اختلف بالجزء الاوسط الممهد لتغيير البحر . ..وهو ان الشاعر ببعض المقاطع لم يلتزم بما نوهنا عنه من فارق مميز لحروف المد الطرية عن الحروف الصحيحة المتسمة بالصلابة بل اعتمد المد فقط في اللفظة الاخيرة من الشطر الثالث .

نعني انه قد اهمل المد في بعض الاشطر … ولكنه بالمقابل لم يجمع بين صلابة ساكنين مما يسمى بالحروف الصحيحة … بل اعتمد مغايرة اخرى هي تغيير الضرب من ( فعلان ) الى ( فعلن ) في الشطرين الاول والثاني مع الالتزام بالمد بالثالث .

نجد ذلك في قوله :

في سرنا الاعمق

انساننا يغرق

تقنا لصوت خشوع

 

نود أن نؤكد ثانية على أن تعاقب البحور في قصيدة( بلا اثر ) للشاعر صالح أحمد الكناعنة قد جاء تلبية لحاجة فنية كون النص قد اعتمد تعدد الأصوات .

عن Xalid Derik

x

‎قد يُعجبك أيضاً

الكتابُ … / بقلم: أحمد بريري

  الكتابُ خيْرُ صحْبي فيهِ تلقَى المعْلوماتِ منْ علومٍ وقرِيضٍ وتاريخِ الموجوداتِ ...

أحلم بعيون ذكية / بقلم: سامح أدور سعدالله

أحلم بعيون ذكية أتغمض عيناي الغبية  ذكائي؟ تلك هي المعادلة التي تحتاج ...

قصيدة”سكارى بالكرة” للشاعر مصطفى معروفي/ بقلم: عبد الرحمن منصور

1ـ القصيدة: سكارى بالكرة شعر:مصطفى معروفي نظـلُّ بهـا علـى وهْــمٍ سـكـارى***و قد ...

الفصام / بقلم: عــبــدالناصر  عــلــيوي الــعــبيدي

  ———- الــصدقُ فــي الإنــسانِ خيرُ فضيلةٍ فــــعــلامَ تــكــذبُ أيــهــا الــكــذابُ – ...

أشياؤها الخمس / بقلم: فراس حج محمد

  [محاولة رثاءِ امرأةٍ ضاعت في جنون الحرب]   أشياؤها الخمسُ التي ...

الأخلاق في رواية عشيق السيدة تشاترلي للكاتب دي إتش لورانس / بقلم:محمد عبد الكريم يوسف

  أثارت رواية دي إتش لورانس “عشيق السيدة تشاتيرلي” الجدل والنقاش منذ ...

السياسة في أنتوني وكليوباترا / بقلم: محمد عبد الكريم يوسف

    في مسرحية ويليام شكسبير “أنتوني وكليوباترا”، تلعب السياسة دورا مركزيا ...

نزل المطر/ بقلم: آمنة بريري

نزل المطر   فاصطبغ الكون بالصفاء والسموّ   وسرت نسمات شذيّة تلامس ...

واحة الفكر Mêrga raman