الرئيسية / آراء قكرية ونقدية / تعليق على قصة “رحيل جوليت” للكاتبة ميسون أسدي “الدير حيفاوية”/ بقلم: د. صالح خليل سروجي

تعليق على قصة “رحيل جوليت” للكاتبة ميسون أسدي “الدير حيفاوية”/ بقلم: د. صالح خليل سروجي

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تعليق على قصة “رحيل جوليت” للكاتبة ميسون أسدي “الدير حيفاوية”

بقلم: د. صالح خليل سروجي – ألمانيا

تَتمرْكزُ أحداثُ هذهِ القصّة، للكاتبة ميسون أسدي، حوْل امراةٍ تُدْعى “أم وفيق” وقد تجاوزت التّسعين مِن عُمْرها وتعيشُ في عُزلةٍ قاتِلَة وبعيدة، في عالَمِها، عن ضوضاء هذا العالم البارِد، حيثُ لا يلعبُ “الزمنكان” دوراً فاعِلًا في هذه القصّة، وهذا هو برْنامجُ الكاتبة منذُ البداية، لأنّها تُريد أن تقولَ لنا بِإنّ ما يحدثُ لأم وفيق قد يحْدث في كلٍ زمانٍ ومكانٍ لأيّ شخْص كان. وبِهذا تَتخطّى الكاتبة في قصّتِها الهادِفة هذهِ حدودَ المكانِ السجينِ والزّمانِ المكسورِ لأم وفيق لِتُحلّقَ في فضاءٍ إنساني رحب ليكونَ قادرًا على اسْتيعابِ صوتِها الخاص، ولتُذكِّرنا بِنفْس الوقت، نحن القرّاء، بأنّ زمانَنا فقد توازُنه وأصبح وحيدًا لأننا تخلّيْنا عنه فهجرتْنا الطيورُ وبقينا ننتظُرها علّها تعود “فَنَخَرَتْنا الوحدة حتى العظم”.

إنّ القراءة المُتأنِّية لهذا النّص  تكشِف لنا عن المواضيع المختلفة – مثل الوحدة والفراق بأشكاله المختلفة والفرح والحزن واللوعة والأبناء والبنات والتّبنّي والحبيب الذي رحل والخ -، التي تُعالجها الكاتبة من خلال السَّرد الشَّيّق والبسيط وبنفس الوقت الهادِف، والذي يبحث عن رؤية إنسانية شامِلة. ولكن يبقى الموضوع الأساسي والمكثّف لِهذه القصّة هو موضوع “الحب”.

فالكاتبة تتساءل ولكن تشكو، من خلال بطلتها، عن الوحدة التي تعيشها أم وفيق، فهي

” تعاني من وحدة نفسيّة قويّة نتيجة نقص في العلاقات الودودة مع الآخرين، خاصّة مع أبنائها وأحفادها الذين سكنوا بعيدا في بلدات غير مدينتها، ومنهم من هاجر إلى خارج البلاد، فارقوها الواحد تلو الآخر، وكان أول من فارقها زوجها الذي رحل وهي ما زالت في ريعان شبابها. ووحدتها النفسيّة، هي نقطة البداية لكثير من المشكلات التي تعاني منها العجوز، فقد أصبح يغلب عليها الشعور الدائم بعدم السعادة والتشاؤم”.

فمن خلال هذا الوضع المحزن الذي تعيشه بطلة القصة تُوجِّهُ ميسون أسدي نقدها، وبشكل غير مباشر وغير مُفتعل، وبدون توجيه إصبع الاتهام، إلى شريحة كبيرة من مجتمعنا التي تعيش مثل هذه الظروف غير الإنسانية.

واختيار الكاتبة لاسم بطلتها “أم وفيق” ليس عشوائيًا، فهو  يُملي بعدًا رمزيًا مُتميِّزًا وإضافيًا على مشروعها السّردي المتكامل. فكلمة “وفيق” تعني الرفيق ومن صفاتها، الرفقة الجميلة والتعهد والكلمة الجادة وحب مساعدة الناس والوفاء وطيبة القلب وما الى ذلك. وهذه الصفات تفتقدها أم وفيق بعد أن تركها أحبابها وأهملها أفراد أهلها.

فالكاتبة تعي ما تكتب وما تقول، وتُطلِق العنان لبطلتها لتقول ما يُحْزِنها وما يُؤلمها نتيجةً لهذه الوحدة القاتلة. وهنا تقوم الكاتبة بطرح البديل لهذا الوضع المليء بالفراغ “وللوحدة النفسية” التي تعيشها بطلتها، من خلال عرض “مشروع الحب” لإعادة التوازن الى العالم الداخلي لها حتى لا تذهب التجربة سدى. وللتّعبير عن هذا المشروع تتَّكِىء ميسون أسدي على استراتيجية التّناص من أجل الوصول إلى مكانٍ قادر على التصالح مع ذاته وزمنه حتى تنقذ أربعةَ وتسعين عامًا من الانكسار الأخير. فهنا تُحسن الكاتبة بذهابها خارج حدود الوطن واختيارها لقصة حب عالمية مشهورة للأديب والشاعر الإنجليزيّ شكسبير “روميو وجوليت” وهي عبارة عن عمل مسرحي تراجيدي يموت بنهايته بطلة وبطل المسرحية. ولكن الكاتبة أسدي في قصتها المتشعِّبة الرُّؤى تنتهج مسارًا تفاؤليًّا مختلفًا، وعلى النّقيض لشكسبير ، بأنّها بعثت “السرور والأمل والعزاء” في قلب بطلتها بعد أن فقدت هذه حبيبَتها “جولييت” وتركت روميو وحيداً حزيناً، كأم وفيق، في قفصه. ولكن وحدة روميو لم تطُلْ، لأن ابنة أم وفيق، والتي لا نعرف اسمها – ولربّما وفيقة –  لم تتحمّل ألم وبكاء والدتها المرّ فذهبت الى السوق وعادت بعصفورة كناري وأدخلتها إلى القفص فبَدَّدَتْ من وحدة روميو فقفز يزقزق وأعادت بذلك الفرحة إلى قلب أمّها الوحيد.

تريد الكاتبة في هذه القصّة، ومن خلال معالجتها لقضية الحياة والموت وقضية الفراق والوحدة وبالتركيز بالذات على مشروع الحب والدِّفء، تريد أن تُعيدَنا قليلًا إلى بساطة الأشياء وإلى جدل الطّبيعة وإلى البدايات التي رحلتْ والى الرّفق بالحيوان والرّفق بالإنسان وتريد أن تُذكِّرَنا بالذين رحلوا وما زلنا نحبهم والذين بقوْا وما زلنا نحبهم حتى في وحْدتِنا. وبهذا تترك لنا ميسون أسدي بالنّهاية شعلة من نورٍ وبخورٍ وفسحة أمل برغم برودة وقساوة “الطّقس” الذي نعيش به.

تفتح الكاتبة لنا في هذه القصّة أُفقًا بنفسجيًّا وفضاءً قرمزيًّا وتتركنا لِوحْدِنا، وبوحْدتِنا، نختار الطّريق…

 

بعض السطور عن الكاتب

صالح سروجي من مواليد مدينة الناصرة ويقطن في ألمانيا، ويعمل كمحاضر في جامعة بايرويت في ألمانيا، وحائز على لقب الدكتوراة في مجال الأدب الفلسطيني في أطروحة عن أعمال الكاتب الراحل اميل حبيبي. للكاتب اصدارات بمجال الشعر والنقد الأدبي والمقالة القصيرة والأبحاث العلمية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قصة…ـ

رحيل جولييت/ بقلم: ميسون أسدي

…………………………….

قبل أن يشقشق الفجر وتضيء الشمس المكان بوجودها، استيقظت العجوز أم وفيق باكرًا ووضعت أمامها كأس الحليب المحلى مع كسرة الخبز وأخذت تمضغ طعامها رغمًا عنها، فهي تعاني من وحدة نفسيّة قويّة نتيجة نقص في العلاقات الودودة مع الآخرين، خاصّة مع أبنائها وأحفادها الذين سكنوا بعيدا في بلدات غير مدينتها، ومنهم من هاجر إلى خارج البلاد، فارقوها الواحد تلو الآخر، وكان أول من فارقها زوجها الذي رحل وهي ما زالت في ريعان شبابها. ووحدتها النفسيّة هي نقطة البداية لكثير من المشكلات التي تعاني منها العجوز، فقد أصبح يغلب عليها الشعور الدائم بعدم السعادة والتشاؤم.

 

شعرت أم وفيق بحركة غريبة في البيت وحدّثها حدسها بأنّ شيئًا ما ليس على ما يرام، جالت في خاطرها أمور كثيرة، وهامت بتفكيرها وتأملها وإذ بها ترى جولييت صغيرتها وأحبّ المخلوقات قاطبة إلى قلبها والتي عاشت في حضنها مدة طويلة، ملقاة على ظهرها جثة هامدة بلا حراك.

ارتعبت ام وفيق وناحت كذئب جريح وصرخت بأعلى صوتها:

– جولييت، جولييت يا حبيبتي، ماذا حل بك؟ وصرخت فاغرة فاها: يا ناس يا هو، رحلت زهرة الوطن، ودمعة العين.. رحلت صغيرتي المدللة جولييت. نامي قريرة عين يا قرة العين.

***

رفعت العجوز سماعة الهاتف دون أن تفكر مرتين وهي تبكي وتندب حظها التاعس، وبدأت تتصل بالواحد تلو الآخر من أحبائها والمقربين إليها لتخبرهم عن رحيل جولييت، وهي التي ترفض الاتصال بأحد لعزّة نفسها ولا تستعطف أحدًا ليقوم بزيارتها أو ليسأل عن حالها، مدّعية بأنها الأكبر سنًا وعلى الآخرين الاتصال بها وليس العكس.

 

لم تترك العجوز أحدا إلا وبكت له ولوعت قلوب من تعرف حزنها على ما ألمّ بها.

 

سمعت العجوز طرقًا مدويًّا على بابها، وإذ بابنتها الوسطى وهي في السبعين من عمرها، جاءتها على عجل عندما سمعت خبر رحيل جولييت، وضمت أمها إلى صدرها لتخفف عنها كربها وقالت:

– لا تبكي يا أمّي، سنموت كلنا، وسنترك الحياة وراءنا، انا أفهم حزنك واشاطرك همّك.

أجابت العجوز بجزع:

– الفراق صعب يا أبنتي، كيف غادرتني جولييت الغالية بلا وداع ولا حتى كلمة. انتهت من الحياة، سُلَّت منها كالشعرة من العجين، يا حبيبتي ودنياي، يا جولييت.

تأففت البنت وضاق صدرها من حزن أمها المبالغ وقالت بنوع من الفتور:

– هذه هي الحياة وهذا هو الموت وهما شيء واحد، إنها النهاية يا امي.

نظرت العجوز إلى ابنتها وبحلقت بعينها والشرر يتطاير منهما وقالت بغضب:

– هذا الموت اللعين الذي يتقافز من جسدٍ لآخر، ليته أخذني وترك صغيرتي جولييت.يا لتفاهة هذه الحياة، عندما يتساوى بها الموت مع الحياة.

***

أم وفيق العجوز سيدة نبيلة، شارفت على التسعين وتخطتها بأربع سنوات، لكنها تبدو في السبعينات من عمرها، فهي امرأة تسخى على نفسها من لباس وطعام وتذهب كل أسبوع إلى الكوافير ليصفّف شعرها ويصبغ خصلاته البيض. ولا تشلح طقم أسنانها، حتى أثناء النوم، خشية أن يفاجئها الموت وهي بلا طقم الأسنان الذي صممه لها طبيب اسنان ماهر قبل عشرين عامًا.

نخرتها الوحدة حتى العظم، وشكت من عدم وجود أحد برفقتها، ومن إهمال أفراد الأسرة لها وعدم الانسجام معهم، ومن الشعور بالعزلة عن الآخرين – وهي التي كانت مربية لأجيال في مقتبل عمرها.

أم وفيق قليلة الكلام، وإن حكت، لسانها جارح، ونادرًا ما لا تجرح بكلماتها المختصرة والمقتضبة خاصة وأنّها تؤمن بأنّها تنحدر من سلالة ارستقراطية لم يتبق لها سوى عجرفتها ونظرتها الفوقية للناس. أجادت الصرف والبذخ على طعامها ولباسها ولكنها لم تسمح لأحد باحتساء فنجان قهوة أو كاس ماء في بيتها وعلى حسابها وكانت تشكك بكل من يدخل بيتها بأنّه جاء ليسرقها أو يستغلها.

****

تبنت العجوز الصغيرين جولييت وروميو قبل عامين واغدقت عليهما مما تملك، ليملآ عليها بيتها ويخففا من وحدتها بعد أن فارقها ابناؤها الى بيوت الزوجية ومنهم إلى الآخرة.

قبل أن تغسل وجهها بماء الصباح، تتسلل من سريرها إلى غرفتهما وتصبّح عليهما وتهدهدهما كطيور الجنة. استحوذ حبها لهما على كل حياتها وتفكيرها. لم تتوقع أم وفيق ما حدث ولم تصدق ما رأته عيناها.

نظرت العجوز صوب روميو وكان مثلها مصدوما قلقا متألما يبكي بصمت فراق رفيقته. وقف على مقربة منها لم يتحرك من مكانه قيد أنملة، منكس الرأس، شارد الفكر ضائع النظرات وكما يبدو توقع ما حدث لرفيقته، فلم تقترب جولييت منه منذ عدة أيام وانقطعت عن الطعام وساءت حالتها الصحية الأمر الذي لم تنتبه إليه العجوز لكبر سنها ووهن جسدها.

أحسّت ام وفيق أن روحها ستفارقها، ستروح من بين يديها وتنطفئ كالشمعة، بكت من صميم قلبها بكاء مرًّا ولم تعرف ما إذا كانت تبكي رحيل جولييت أم تبكي على روميو الذي سيبقى وحيدًا مثلها في أيام الصيف والشتاء ويعد الساعات والأيام ليطرق بابهما أحد أو أي ضيف أو حتى متسوّل.

***

واصلت الابنة حديثها وهدّأت أمها بقولها: إن الحياة ما هي إلا “فراق بفراق” وعلينا تقبل الأمر لأنّه لا قرار لنا بذلك، والموت يخطفنا حتى لو كنا في بروج مشيّدة… وقدمت الابنة لأمّها بعض الطعام والشراب وفتحت لها التلفاز لتشغلها ببعض من برامجها المفضلة، ثمّ تركتها لوحدها واعدة إياها بانها ستعود اليها بعد ساعة من الزمن.

***

قصدت الابنة على الفور سوق البلد. عادت وهي تحمل بيدها عصفورة كناري صغيرة اقتنتها من دكان الحيوانات.

أدخلت الابنة انثى الكناري إلى القفص. فقفز روميو عدة قفزات داخل القفص مرحبًا برفقيته الجديدة وما هي إلا لحظات حتّى دخلت الانثى الجديدة إلى داخل عشّها واستكانت به وكأنّها لم تفارقه.

نظرت العجوز إلى ابنتها بعينين يملأهما الظفر، وقالت:

– يا لهذا الصوت الرقيق! يا لها من زقزقات متواصلة.

وعادت الفرحة لتعشعش في قلب العجوز وامتزجت في نبرات صوتها رنّة جواهر من السرور والأمل وحملت اليها الراحة والعزاء.

عن Xalid Derik

x

‎قد يُعجبك أيضاً

الكتابُ … / بقلم: أحمد بريري

  الكتابُ خيْرُ صحْبي فيهِ تلقَى المعْلوماتِ منْ علومٍ وقرِيضٍ وتاريخِ الموجوداتِ ...

أحلم بعيون ذكية / بقلم: سامح أدور سعدالله

أحلم بعيون ذكية أتغمض عيناي الغبية  ذكائي؟ تلك هي المعادلة التي تحتاج ...

قصيدة”سكارى بالكرة” للشاعر مصطفى معروفي/ بقلم: عبد الرحمن منصور

1ـ القصيدة: سكارى بالكرة شعر:مصطفى معروفي نظـلُّ بهـا علـى وهْــمٍ سـكـارى***و قد ...

الفصام / بقلم: عــبــدالناصر  عــلــيوي الــعــبيدي

  ———- الــصدقُ فــي الإنــسانِ خيرُ فضيلةٍ فــــعــلامَ تــكــذبُ أيــهــا الــكــذابُ – ...

أشياؤها الخمس / بقلم: فراس حج محمد

  [محاولة رثاءِ امرأةٍ ضاعت في جنون الحرب]   أشياؤها الخمسُ التي ...

الأخلاق في رواية عشيق السيدة تشاترلي للكاتب دي إتش لورانس / بقلم:محمد عبد الكريم يوسف

  أثارت رواية دي إتش لورانس “عشيق السيدة تشاتيرلي” الجدل والنقاش منذ ...

السياسة في أنتوني وكليوباترا / بقلم: محمد عبد الكريم يوسف

    في مسرحية ويليام شكسبير “أنتوني وكليوباترا”، تلعب السياسة دورا مركزيا ...

نزل المطر/ بقلم: آمنة بريري

نزل المطر   فاصطبغ الكون بالصفاء والسموّ   وسرت نسمات شذيّة تلامس ...

واحة الفكر Mêrga raman