الرئيسية / آراء قكرية ونقدية / دموع جافة.. تحديات و تشظيات / بقلم: بوسلهام عميمر

دموع جافة.. تحديات و تشظيات / بقلم: بوسلهام عميمر

دموع جافة.. تحديات و تشظيات

بقلم: بوسلهام عميمر

ــــــــــــــ

وقفة مع العتبات:

العنوان:

ما نعرفه في المجال الطبي، هو جفاف العيون من الدمع لخلل في التوازن بين مركبات الدمع

المختلفة كالماء والمواد الدهنية والبروتينات، تحافظ على سطح العين نظيفا وملسا، كما

تساعد على وقاية العين من التلوث. أما أن تجف الدموع نفسها، “فما الذي يصلح الملح إذا

الملح فسد”. إنها وجه من وجوه البلاغة بنسبة الجفاف إلى الدموع نفسها، وهو مما لا يستقيم

في الواقع الحقيقي، للتعبير عما عاشه البطل من عذابات وانكسارات و إهانات من أقرب

الناس إليه؛ أمه وأبوه و أخواله، وبعض أبناء قبيلته ممن لجأ إليهم في الغربة فأغلقوا أبوابهم

في وجهه

وظلم ذوي القربى أشد مضاضة       على المرء من الحسام المهند

لأن تجف الدموع نفسها، إنه منتهى العذاب، كناية على كثرة الدموع التي سحت وانسكبت

على امتداد صفحات هذا الجزء من السيرة، حتى جفت وتيبست، وخاصة خلال مرحلة

طفولته.

لنتصور حال طفل صغير يعيش وطأة الطلاق، وبعده بقليل يعيش غصة الفراق إثر زواج

أمه. لم يكن له من سلاح غير البكاء حتى تجف المآقي، بل تجف الدموع نفسها كما في

العنوان.

لوحة الغلاف:

فالعنوان، مع لوحة الغلاف بلونها الآجوري الداكن، و بتدرج من الأسفل إلى أعلى تزداد

قتامة، ليخيم عليه الظلام كلية. فاللوحة بتصميمها البسيط، و إن كان في بساطتها سر قوتها،

لا يظهر من العين غير أشفار مشعثة كأنها شرارات لاهبة، تنز دموعا مختلفة الأحجام

و الأشكال. فمن بين دلالات الأحمر المتعددة، أنه يقوي روح الانتماء. فمن خلال بعض

الدراسات لوحظ أن المغتربين عادة ما يفضلونه، بما أنه يشعرهم بتجدد انتمائهم إلى وطنهم.

ومن هنا ما يعرف بالسجاد الأحمر الذي يفرش للضيوف احتفاء بهم، و إشعارهم بأنه

ينتمون إلى هذا البلد.

كلها معان تتماهى مع حياة البطل الذي عاش الاغتراب القاسي على أكثر من مستوى. فقد

عاشه في بلدته بفقد حضن الأب، ثم بفقد حضن الأم. وبفقد حنان جده إثر تزوجه ثانية

فانشغل عنه بابنته الصغيرة. كما عاشه في أقسى تجلياته داخل الكنائس التي تنقل بين

جدرانها، لما اضطر ليصلي خفية حفاظا على عقيدته. كما عاشه و هو بالديار الاسبانية،

حتى إنه كم مرة كان يقصد القنصلية المغربية فقط ليتحدث إلى المغاربة بلغته الأصلية.

صور من تشظياته الحياتية:

الصورة 1:  “مائة تخميمة وتخميمة و لا ضربة مقص”

صفعة واحدة من أبيه الفقيه مدرس القرآن على خد أمه، كانت كافية لتقلب حياة أسرة الطفل

سافلها عاليها. إذ كانت آخر عهد، لطي صفحة زواجهما. من يومها توالت على الطفل ألوان

مختلفة من الانكسارات والعذابات وجراحات تكبر معه، قلما عاش غيره مثلها. ألا تدعو

مصائر هذه نتائجها، أن يفكر الأزواج مائة مرة قبل ضربة مقص، صغر حجمها أو كبر؟

فبعد الحرمان من حضن الأم الدافئ والأب، إلى حرمانه من التفرغ للعلم والتعلم بإرغام خاله

له لمساعدته في تبريم الخيط حتى إتمام خياطة جلابيب القائد وغيره، إلى تعليقه من رجله

بشريط”كالخروف المذبوح تماما” ص13، على يد أمه خلال أول زيارة لها ببيت زوجها، لم

تندمل ندوبها طوال حياته، إلى الجفاء و البرودة التي أحسها عند ذهابه عند أبيه بنواحي

أصيلة “إذ لم يكن رجلا اجتماعيا ولا رجل حوار ونقاش، مما جعلني أشعر بالندم على هذه

الزيارة” 17، إلى حدود سن الحادية عشرة من عمره، إذ شد الرحال مع طلبة حفظ القرآن

ليقطع خمسين كيلومتر مشيا على الأقدام ليكمل الرحلة لوحده، إذ داهمه الليل، فلم يجد غير

شجرة يحتمي بها حتى يبزغ فجر اليوم الموالي على صوت الذئاب العاوية و قباع الخنزير

الوحشي.

الصورة 2: الطفل بين ناري المسيحية والإسلام

حقيقة فقد عاش بطل السيرة حياة التشظي بكل معانيها كما الكثير ممن دونوا سيرهم، يحكون

عما عاشوه سواء في أكناف أقربائهم، أو ما لاقوه خلال تشردهم في الشوارع مثل ما حكاه

محمد شكري في سيرته “الخبز الحافي”،  لكن تشظي بطل “دموع جافة”، كان من نوع

خاص. فقد عاشه على مستوى أخطر، بوجوده على حداثة سنه، بين فكي عقيدتين كبيرتين؛

المسيحية والإسلام، على طرفي نقيض في الكثير من قضاياهما؛ فقد كانت من أصعب

اللحظات على نفسه، إذ وجد نفسه كورقة في مهب الريح العاتية، يحمل اسمين متناقضين

محمد الطيبي و خيسوس ماريا، مع الحمولة الثقافية لكلا الاسمين. إنه قمة التشظي. ومع قلة

ما تحصله خلال مرحلة حفظه للقرآن، فإنه لم يستسغ التنصير. يظل سحابة يومه بين تعلم

المسيحية وممارسة طقوسها، ليسارع بعد أن يهجع إلى غرفته ليلا، فيستغرق في الصلاة

وتلاوة القرآن.

الصورة 3:  الأزمة أزمة ممارسة و سلوك

فالإشكال الذي عقد أمره أكثر فأكثر، هو ما لاقاه من المسيحيين في الكنيسة من حسن معاملة

وحفاوة بالغة، وجدها أحد آباء الكنيسة مناسبة لما عرف قصته الأليمة، بعد تنهيدة ليقول

انظروا كيف يتعاملون مع أطفال صغار، و من ملتهم بالأحرى لو كانوا أجانب” 41.

نفس المعاملة الحسنة وجدها ممن اشتغل معهم من الأجانب، و هم على ما هم عليه من

ضلالة وفساد، كما هو متداول في الاعتقاد الإسلامي وفي مخيال معظم المسلمين. مرارا

وتكرارا تردد هذا الادعاء على مسامعه وهو ب”المسيد” يقرأ القرآن، و بين معاملة المسلمين

السيئة للغاية. علما فالدين الإسلامي شعاره الأسمى “الدين المعاملة”. تناقض كلي ظل يعيشه

على امتداد صفحات هذه السيرة، التي تولت إعدادها وإخراجها زوجته فاطمة لوكيلي. ألا

تدعونا هذه الصورة البشعة، لإعادة النظر في أحكامنا على الآخر، بناء على الانتماء الديني؟

ألا تدعونا لترسيخ جوهر الدين بما يعنيه من قيم إنسانية، بدل التركيز على إضلاله وتكفيره

وادعاء الخيرية الزائفة؟

الصورة 4: الأطفال هم ضحايا الطلاق

يقول في ص 10 “و هكذا أصبحت ضحية زواج لم تكن أسسه مبنية على حب ومودة، بل

كان زواجا هشا لا أسس له سوى القبول..وفي النهاية الكثير من هذا الصنف من الزواج

يتوج بالطلاق” ألا يقال “زواج ساعة تدبير عام”؟ فهو يؤكد، أنه و غيره من الأطفال هم من

يدفعون فاتورة الخلاف بين الأزواج. الأب عادة يتزوج من أخرى، ونفس الشيء بالنسبة

للمرأة. و يبقى الأطفال كما حدث لبطل هذه السيرة الذاتية،عرضة لكل أنواع التشظي

و الضياع، طوحت به في متاهات خطيرة. فناهيك عن العنف، يذكر أنه كاد أن تنتهك كرامته

ويغتصب.

الصورة 5: ظلم ذوي القربى و حسن معاملة الأجانب

فما يميز”دموع جافة” أنها ليست أحداثا تروى لذاتها، بقدر ما هي بالطريقة التي حبكت بها،

والبساطة التي طبعتها، هي للعبرة والاعتبار. فالظلم لا تمحي آثاره مهما طال أمده. قد تندمل

الجروح من على جسد المصاب، و لكن في النفس تبقى عصية على الاندمال و النسيان

مهما طال الزمان. فالبطل حتى و هو يتجاوز السبعة وستين زمن كتابة سيرته، فهو يتحدث

عن ما مر به من أهوال و قهر وكأنه يعيشها اللحظة. مياه آسنة كثيرة بللت صفحات حياته.

فمن اشتغاله بصنع الحلوى الملونة، إلى مساعدة بائع الإسفنج، إلى العمل بشواء اللحم وغسل

الأواني بأحد الفنادق، إلى يوم أن ركلته أمه لما حاول التعلق بها للرحيل رفقتها، إلى صناعة

الكرميل وبيعها في الأسواق الأسبوعية، إلى الرعي بالجبل، إلى محاولة اغتصابه من طرف

أحد المارة، إلى رفض أحد صناع الحلوى إعطاءه ما بذمته، إلى الاشتغال مع اسباني يقول

إنه تعاطف معه لما علم بقصته، فصاحبه إلى طنجة “كان الوصول إلى طنجة كالخروج من

جهنم” 33، فتولى تفريق الكارميل على المتاجر والدكاكين الصغيرة، إلى أن كان الاستقلال

فبدأ الإسبان يشدون الرحال إلى بلدهم، فوجد نفسه ثانية مع ألوان من الشقاء والقهر، مثل ما

لاقاه من أحد أقاربه يعمل أستاذا بطنجة، اضطرته الظروف ليلجأ إليه فقال له “أنا أتأسف

جدا، لا أستطيع مساعدتك وأغلق الباب في وجهي“35، فضاقت به السبل، فراودته فكرة

ارتكاب جريمة، يستحق عليها السجن ليستفيد من الأكل وممارسة الرياضة،  بجمعية إعادة

الشباب المتورطين في الجرائم. إلى أحد الصباحات إذ تم الاعتداء عليه من قبل شرطي

اعتداء شنيعا “وبدأ فمي وأنفي يسيلان بالدم” 38، أثناء تواجده بأحد الشوارع يبيع المثلجات

بيعا مرخصا له.  و لما سأله أحدهم عما فعله، قال كذبا “إنني شاهدته يحاول سرقة حقيبة يد

لسيدة” لتتم الجريمة في حقه بحمله إلى مخفر الشرطة بملابسه الملطخة بالدم. فالجرح كان

عميقا إذ لم يجد ما يصفه به، بعد كل العقود على وقوع الحادث غير”أما ذلك الوحش لأنه لا

يستهل اسما آخر” 38 فلم يخرج من وراء القضبان إلا بعد حضور الاسباني وابنته التي

لما وقع نظرها على حالتي تأسفت جدا وأخذت تبكي وهي تقول من هو هذا الوحش إنه

ليس بإنسان كيف استطاع عمل هذا في طفل لا حول له ولا قوة“39، ليبدأ فصل جديد من

حياته بالتحاقه بإحدى الكنائس بمدينة سبتة، باقتراح من ماريا تاركا وراءه”أحداثا نقشت

ونحتت في ذاكرتي إلى الأبد“40.

من يومها يقول بدأ الخوف و اشتد الصراع النفسي بين ما تعلمه في المسجد من قرآن وما

رسخ في دهنه من أحاديث، وبين ما يتم تلقينه من أركان الكنيسة الستة يقول”كلما دخلت إلى

الكنيسة كنت أشعر بالذنب بالرغم من أن لا ذنب لي في كل ما جرى ويجري حولي” 42

ومن حين لآخر يتذكر الوحش الذي أوصله لهذا المآل “استغل لباس السلطة والقانون

ليمارس عنفه على طفل لا حول له ولا قوة“43

أليست مثل هذه الممارسات خارج القانون هي التي تولد العنف، خاصة والظلم كان مزدوجا.

فمن جهة فالبيع كان بترخيص، والثانية الاتهام بالسرقة والطفل منها براء، كما العقاب كان

متعدد الأوجه؛ السب”لدين مك ستعلمني القوانين في عملي” 38، و الصفع واللكم و الركل

على الرأس والوجه، و الأخذ للمخفر ورميه وراء القضبان. أليست هذه ومثيلاتها هي وقود

الثورات التي تأتي على الأخضر قبل اليابس؟

أليس ما تعرض له الطفل من أقرب مقربيه، وكلهم متدينون، مدعاة للتساؤل عن علاقتهم بقيم

الإسلام السمحة؟ و الغريب لما يغير أحد دينه تحت وطأة الفاقة والحاجة، أو لم يغيره إلا

ظاهرا تقوم قيامة عالمهم وأميهم ولا تقعد. إنهم لا يعرفون من الدين غير”من غير دينه

فاقتلوه” دون سبر الأسباب و معالجتها من أساسها بالتي هي أحسن. إنهم لقصر نظرهم لا

يرون من جبل الجليد غير قمته، أما البحث فيما تعرض له مثلا بطل هذه السيرة من سوء

معاملة وضياع حقوقه و استغلاله لصغر سنه ولا ظهر له يحميه، مقارنة مع ما لاقاه من

الاسبان وهم على ملتهم المسيحية أو لا دين لهم من حسن معاملة ماديا ومعنويا.

التشظي 6:  ومن الحب ما قتل

من مغامرة إلى أخرى بانضمام محمد خيسوس إلى الجيش الاسباني فرقة المظليين، إلى

عودته إلى قبيلته سماتة، رغبة منه في إحياء صلة الرحم بأقاربه، لكن الرياح جرت بما لا

تشتهي سفنه، إذ وجد نفسه مقتادا إلى العاصمة ومن تم إلى وجهة مجهولة معصوب العينين

للتحقيق معه. ف”البريء متهم حتى تثبت براءته”. كانت رحلة عصيبة ذاق فيها الأمرين؛

سجن و جوع و استنطاقات رهيبة، قبل أن يتأكدوا من أقواله، انتهى به المطاف لينضم إلى

الجيش المغربي بتوصية من المارشال أمزيان.

خاتمة:

أليست هذه السيرة فيها من الأحداث الدرامية ما يؤهلها لتكون مادة خامة لعمل درامي متميز؟

ففيها كل عناصر الإثارة. فليس هناك أكثر من أن يحمل البطل اسمين متناقضين بحمولتهما

المسيحية و الإسلامية، كان سببا في اعتقاله والتحقيق معه، فضلا عما عاشه من ترحل بين

قريته و بعض المدن قبل الانتقال إلى سبتة ومنها إلى اسبانيا وإيطاليا، وانضمامه بعد

انسحابه الطوعي من الكنيسة ليلتحق بالجندية بفرقة المظليين الإسبانية، ليتوج هذا المسار

بالخدمة العسكرية في صفوف القوة الملكية المسلحة للمظليين بالمغرب، لينهيها طواعية قائلا

“وكان لحدث انقلاب الصخيرات أثر كبير على نفسيتي سنة 1971 وأحداث 1972، إذ كنت

من الجنود الذين عاشوا هذه الأحداث عن قرب حيث رأيت وعشت فيها أحداثا تشمئز منها

النفس ويقشعر لها البدن” ص93. اشتغل بعدها تقنيا كهربائيا، ليعود من جديد إلى أزمات

مادية ونفسية، اضطر ليعبر إلى الجزائر ومنها إلى مجموعة من الدول الأخرى. هذا كله

إضافة إلى ما لم ينشره في سيرته لحساسيته، كما ذكر في أحد حواراته، كانتشار البيدوفيليا

في المسيد والكنيسة على حد سواء. أليست كلها أحداثا تؤثث لعمل درامي مائز؟    

  

عن Xalid Derik

x

‎قد يُعجبك أيضاً

الكتابُ … / بقلم: أحمد بريري

  الكتابُ خيْرُ صحْبي فيهِ تلقَى المعْلوماتِ منْ علومٍ وقرِيضٍ وتاريخِ الموجوداتِ ...

أحلم بعيون ذكية / بقلم: سامح أدور سعدالله

أحلم بعيون ذكية أتغمض عيناي الغبية  ذكائي؟ تلك هي المعادلة التي تحتاج ...

قصيدة”سكارى بالكرة” للشاعر مصطفى معروفي/ بقلم: عبد الرحمن منصور

1ـ القصيدة: سكارى بالكرة شعر:مصطفى معروفي نظـلُّ بهـا علـى وهْــمٍ سـكـارى***و قد ...

الفصام / بقلم: عــبــدالناصر  عــلــيوي الــعــبيدي

  ———- الــصدقُ فــي الإنــسانِ خيرُ فضيلةٍ فــــعــلامَ تــكــذبُ أيــهــا الــكــذابُ – ...

أشياؤها الخمس / بقلم: فراس حج محمد

  [محاولة رثاءِ امرأةٍ ضاعت في جنون الحرب]   أشياؤها الخمسُ التي ...

الأخلاق في رواية عشيق السيدة تشاترلي للكاتب دي إتش لورانس / بقلم:محمد عبد الكريم يوسف

  أثارت رواية دي إتش لورانس “عشيق السيدة تشاتيرلي” الجدل والنقاش منذ ...

السياسة في أنتوني وكليوباترا / بقلم: محمد عبد الكريم يوسف

    في مسرحية ويليام شكسبير “أنتوني وكليوباترا”، تلعب السياسة دورا مركزيا ...

نزل المطر/ بقلم: آمنة بريري

نزل المطر   فاصطبغ الكون بالصفاء والسموّ   وسرت نسمات شذيّة تلامس ...

واحة الفكر Mêrga raman