الرئيسية / قصة / ريتــــــــاج / بقلم: صبحة بغورة

ريتــــــــاج / بقلم: صبحة بغورة

ريتــــــــاج

بقلم: صبحة بغورة

ــــــــــــــــ

نظرت “ريتاج”هذه المرة إلى شوارع حيها نظرة بائسة، كانت الرياح الماطرة لا تزال تعصف بكل قوتها منذ صباح ذلك اليوم وهي تبحث عن شيء ينسيها معاناتها حتى لا تأتي دودة التفكيرها تنبش ذاكرتها، ليست لها الشجاعة الكافية وقوة التحمل لتدخل إلى دهاليز أحلامها المظلمة والتي شاء  لها القدر أن تتوقف عند الحلم وإلى الأبد بل ولم يبق لديها أمنيات تنتظر تحقيقها مثل المحكوم عليه بالإعدام ، ريتاج زوجة في عقدها العشرين ، أم لوسام وأمير طفلاها الصغيران تحبهما وتحب زوجها الذي لم يبخل عليها بعطاء من الحنان موفور والعطف الموصول وحماية بيت بنته معه بكل الحب والصدق والإخلاص، كان كما حلمت به وهي طفلة راشدة ، فارسا محلقا بها بين النجوم ممسكا يديها التي لا تريد أن تفارقه، سابحة في لجج أفكاره،

يحتويها بين جناحي رعايته محلقة في المدى، كانت معه ترى الطريق إلى السماء قصيرة وسنين عمرها معه قصيرة، تتحسس دقات قلبه المتسارعة عند أطراف أصبعه وتندهش عندما يتأملها في صمته المفاجيء ، تقترب منه وتقترب اكثر فيوميء لها بعينيه أن تتوقف في غمرة عشقها المجنون به ، يداها الناعمتان ترتجف بين راحتيه لأنها لا تدري من الآن ماذا تقول ،ومن أين تبدأ،إنه الحزن، وهكذا تبدأ النهاية ، ليل كموج البحر أو بحر كالليل الطويل ، طبع قبلة طويلة على يدها فأحست بدفء غامض يسري إلى قلبها الحزين ، كانت روحه هي التي حلقت قبل قليل، غادرته لتستقر بجانب قلبها الصغير، ماذا تقول له وقد أصبح هذا القلب الصغير يحمل عذابا كبيرا،هل تبوح له بعذابها بينما يعذبها صمته والآتي بالنسبة لها وجه بلا ملامح ، تريد أن تعتذر له ولأولادها إنه ليس ذنبها بل ذنب الزمن الذي قسى عليها ،

تفكر هي كما لو أنها تنزع الأفكار من رأسها، هل تموت الأحلام كالمدن تموت لأنها لا تمتلك خيار السقوط، ربما هناك مدن لا تسقط لذلك هي تبحث عن مفاهيم أخرى للتشبه بها وللتماهي معها، لعشقها لزوجها ولحبها لأولادها ،للأسف أصبحت ترى الكل إلى جانبها أطياف لا أكثر، تلهج بالدعاء وتتضرع إلى الله سبحانه وتنتظر الفرج ،فرج يخفف عذابها ويحي نبتة الأمل في روحها ، إنه مزيج من الرغبة والرهبة، تظل عيناها دامعتين متضرعتين ترقبان استجابة الدعاء ، تنهدت من أعماقها واستغرقت في المعاني ما أجمل أن يكون قلب الإنسان واسعا يحتوي الكل ، كبيرا وصغيرا شريفا أو بسيطا ، إنها هبة رائعة يحبو الله بها عباده، وما أبغض أن ينكفئ الإنسان على نفسه فلا يرى ولا يسمع سوى صدى صوته ولا تهمه أنات الآخرين ، لكنها هي من تسمع أنات آلامها ، لم تشأ يوما أن تخبر زوجها وأولادها وأهلها ، تصورت كيف ستكون الصدمة ولا تدري كيف ولا تدري كيف سيتقبلون الأمر ، لابد أن يشاركها همها قريب ، لم يكن أمامها إلا صديقتها ” رفيدة ” هي من تفهمها وتقدر جيدا ظروفها، حملت هاتفها وترجتها أن تأتي إليها لبعض الوقت ،

وما هي إلا لحظات حتى وصلت مسرعة مخطوفة الوجه تسألها عن الأمر، بادرتها أن تعدها أولا بأنها ستهتم بأولادها وعائلتها .. وزوجها من بعدها ، تأملتها رفيدة حائرة ، أهي مزحة  كعادتها معها، أكدت ريتاج أن هذه المرة بالذات ليس فيها مزاح وأن الزمن لم يعد زمنها ، ومن يمر مسرعا كالمجنون يلهث ، يركض  فنتقطع أنفاسها وراءه يجرها إلى عوالم لا تعرفها، تشعر أن الأمور تتغير بسرعة والوقت يجري بسرعة، تبحث عنه في ثنايا نفسها وفي حناياها ولا تجد إلا الفراغ، تحاول أن تتمرد على صحراء أحلامها،، تتمرد على حقيقتها المؤلمة وتحاول أن يلد فكرها همسا لأوجاعها، أيام مرت وهي تحاول أن تزرع ورودا في ممرات المعاناة طامعة في ظلال من أمل يحتل مساحتها المتعبة ،أطرقت رفيدة وزادها القلق فضولا لمعرفة ماذا يجري بالضبط ،ذكرتها ريتاج أنه من أيام أخبرتها أنها تعاني من دوار وهبوط في الضغط ، وبعد إجراء  فحوصات عديدة أخبرها الأطباء أنها مصابة بالسرطان وفي مرحلة متقدمة جدا منه ، ولا أمل في العلاج  إذن أيامها معدودات في الحياة ، كانت الصدمة كبيرة على رفيدة فبكت طويلا وطمأنتها بأنها تبقى أختها الوفية ، صديقتها المخلصة التي لم تترق عنها منذ الطفولة، وتعلم أنها تنازلت عن الدراسة من اجل حبها لزوجها وأنها جعلت بيتها جنة تحسدها عليه كل بنات العائلة ، أما هي بالعكس اختارت دراستها لأنها هدفها في الحياة،خطوات صغيرة كانت كافية لتغيير حياتهما ولونت صفحات أيامهما شمس دافئة أشرقت بداخلهما وزادت توهجا ، فلم يفترقا يوما، ابتسمت ريتاج واستدركت لكنه الموت سيفرقهما ، إنه قدرها ولا مفر منه لكن أمنيتها أن تكون رفيدة زوجة لزوجها وأما لطفليها ” امير” المسكين الذي سيفتقد من يهتم به وهو في شهره السادس ، “وسام” التي تحتاج إلى من يراجع معها دروسها، ذرفت ريتاج دموعا ساخنة أبت أن تتوقف وهو ترجوها أن تهتم بهما وبزوجها “عامر” الذي يستحق حبها وحنانها ، صمتت لحظة وأصر صوتها على أن يظل حبيس حنجرتها، تشابكت يديهما بقوة وهما يؤمنان بأت مشيئة الله القدير والتي لا فرار منها  تمنعهما من معانقة الضوء، إنها نهاية الرحلة،حلمها لم يتسع لكل الفرحة التي كانت بقلبها ،

إنها نهاية المطاف، مضت بضعة أيام وساءت حالة ريتاج أكثرفنقلت إلى المستشفى وحينها عرفت كل العائلة حقيقة مرضها، وفي كل يوم ترى سريرا يودع مريضة وداعا أبديا، وتبقى هي تتأمل ضياء حديقة المستشفى والأحاديث العابرة ، إنه ضوء في خاتمة قصة الصبر لحكاية صارت تشبه كثيرا شمعة شاحبة على حافة الاحتضار، بعد أيام قليلة ستصبح قصة بدفتر في درج الذاكرة ، إنها سنة الحياة  ويأتي الغروب ليمنحها ذلك الإحساس الرهيب بالوحدة والفقدان والانقطاع عن الأحياء، ستلاقي هناك الكثير ممن سبقوها إلى دار الخلود، وفي ليلة كثرت رعودها ذرفت السماء دموعها فارقت ريتاج الحياة وكان لها ما أرادت ، رفيدة أصبحت زوجة لعامر ، عروس بدون عرس وأم وفية لوسام وأمير حيث لا تزال ترى في نظراتهما وابتسامتهما صورة أمهما الأخت والصديقة الوفية .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عن Xalid Derik

x

‎قد يُعجبك أيضاً

الكتابُ … / بقلم: أحمد بريري

  الكتابُ خيْرُ صحْبي فيهِ تلقَى المعْلوماتِ منْ علومٍ وقرِيضٍ وتاريخِ الموجوداتِ ...

أحلم بعيون ذكية / بقلم: سامح أدور سعدالله

أحلم بعيون ذكية أتغمض عيناي الغبية  ذكائي؟ تلك هي المعادلة التي تحتاج ...

قصيدة”سكارى بالكرة” للشاعر مصطفى معروفي/ بقلم: عبد الرحمن منصور

1ـ القصيدة: سكارى بالكرة شعر:مصطفى معروفي نظـلُّ بهـا علـى وهْــمٍ سـكـارى***و قد ...

الفصام / بقلم: عــبــدالناصر  عــلــيوي الــعــبيدي

  ———- الــصدقُ فــي الإنــسانِ خيرُ فضيلةٍ فــــعــلامَ تــكــذبُ أيــهــا الــكــذابُ – ...

أشياؤها الخمس / بقلم: فراس حج محمد

  [محاولة رثاءِ امرأةٍ ضاعت في جنون الحرب]   أشياؤها الخمسُ التي ...

الأخلاق في رواية عشيق السيدة تشاترلي للكاتب دي إتش لورانس / بقلم:محمد عبد الكريم يوسف

  أثارت رواية دي إتش لورانس “عشيق السيدة تشاتيرلي” الجدل والنقاش منذ ...

السياسة في أنتوني وكليوباترا / بقلم: محمد عبد الكريم يوسف

    في مسرحية ويليام شكسبير “أنتوني وكليوباترا”، تلعب السياسة دورا مركزيا ...

نزل المطر/ بقلم: آمنة بريري

نزل المطر   فاصطبغ الكون بالصفاء والسموّ   وسرت نسمات شذيّة تلامس ...

واحة الفكر Mêrga raman