الرئيسية / آراء قكرية ونقدية / “واحة تينونة أو سر الطائر على الكتف” للكاتب أحمد التوفيق / بقلم: بوسلهام عميمر  

“واحة تينونة أو سر الطائر على الكتف” للكاتب أحمد التوفيق / بقلم: بوسلهام عميمر  

   “واحة تينونا .. مدينة الشيخ أحمد الفاضلة”

“واحة تينونا، أو سر الطائر على الكتف”، رواية فريدة من نوعها معنى ومبنى. على امتداد

صفحاتها السبعة و الثمانين بعد المائتين، رحلة معظم محطاتها في عوالم الماورائيات، وفي

الأنفس و في الروحانيات. إنها رحلة في مدارج السالكين، لكنها ليست على سلم ما هو  معلوم

ومعمول به لدى مجموعة من محدودي الفكر والفهم، ممن يتوهمون أن الرقي نحو مقام

الإحسان، لا يمكن إدراكه إلا بكذا عدد من أذكار الصباح

والمساء أو بالصوم المتواصل أو بقيام الليل حتى تتورم

الأقدام أو بقدر طول اللحى وسبحات مختلفة الأشكال

والأحجام وبلس الرقاع، أو بالزهد في متع الحياة جملة

وتفصيلا مما لم ينزل به الله سلطانا “من الشكر أن يذكر

المنعم عليهم أن أوحال الفرق قد تجني على تقدير هبة الله في الجسد الذي هو آلة

الخيرات، فاحتقره بعض الجاهلين، بل واحتقره خوفا منه حتى مساكين من الزهاد الطيبين

عفا الله عنهم”ص193. إنها كما ورد في ص 192 “غوص في لذة الباطن دون زهد ممجوج

لما هم فيه من الطيبات” إنها كما جاء على لسان عيسى في سياق جوابه على سؤال الشيخ

أحمد عن طبيعة مطالب الأسياد “أتوقع أن تكون من قبيل تخليكم عن أمور تحبونها حبا

جما” 56. تخل مؤقت بحسب سياق الرواية للعودة إليها والتنعم بها أحسن من ذي قبل.

بأسلوب روائي سلس مشوق، وبتشبيهات دقيقة تقرب المعاني المجردة وما أكثرها في الرواية،

وبصور جمالية يرشح عبق المسك مع الكافور من خلال فسيفسائها، تأخذ بشغاف الروح،

استطاع الكاتب أن ينقلنا في سفره المفعم بأنواع من الأسرار، لنعيش مع الشيخ أحمد تشوفه

إلى تحرير النفس مما يأخذ بلبابها مما سماه الكاتب على لسان عيسى بالأردية، لا بد من

تخليص نفس الشيخ أو الحاكم منها لتحقيق العدل والإنصاف، “يرجع إلى ما كان رآه في

رؤياه المتعلقة بإزالة الأردية كما رأى أول مرة، وقد تحقق لديه الآن أنها مجملا أردية

شهوة المال وشهوة الجنس وشهوة الرئاسة” ص 170

فالكاتب أحمد التوفيق، قبل أن يكون روائيا بما كتبه من روايات لها وزنها في الساحة الأدبية،

حولت بعضها إلى أفلام مثل “جارات أبي موسى”، فهو مؤرخ بالأساس مما يفتح السؤال على

مصراعيه عن علاقة المؤرخ الذي يستند إلى أحداث و وقائع ومستندات، لا سبيل للتساهل

العلمي بشأنها ولغته الصارمة لا مجال للإنشاء فيها، بالعمل الإبداعي وخاصة جنس الرواية

الذي يشكل الخيال أحد أهم أعمدته، وكذا لغته الشاعرية الانزياحية، وشخوصه المفترضة، و

أزمنته المتداخلة وغيرها من عناصر الفن السردي. الكاتب أحمد التوفيق من خلال منجزه

الأدبي هذا يفتح الباب أيضا للتساؤل حول الاستثناء الذي يشكله باعتباره وزيرا يتحمل

مسؤولية الشأن العام ويكتب الإبداع. فباستثناء أسماء محسوبة على رؤوس الأصابع ممن

تقلدوا منصب وزارة الثقافة من أمثال الشاعر والكاتب محمد الأشعري والكاتب الروائي

والمفكر بنسالم حميش، فعمن يمكننا أن نتحدث في العصر الحديث بما أنه سابقا يمكن أن

نذكر عبد الله إبراهيم و علال الفاسي و المختار السوسي؟ يتعمق السؤال أكثر ويتشعب تحمله

لحقيبة وزارة تتعلق بالشأن الديني. فكيف يستطيع الكاتب أن يتخلص من جبة الدين ليكتب

الإبداع خاصة لما نستحضر القولة النقدية القديمة “أعذب الشعر أكذبه”؟ طبعا الكذب بمعنى

المبالغة في المجاز، والأهم، فقد كانت المناسبة مواتية للاطلاع عن قرب من خلال هذا المنجز

الأدبي على التجربة الصوفية، للتأكيد على أن التشوف الصوفي و الصفاء الروحي والسعي

الحثيث نحو الكمالات، لا يتعارض والإبداع عموما والفن الروائي خصوصا.

السيد التوفيق من خلال عنوان روايته هاته “واحة تينونا”، عتبتها الرئيسية، يحيل على

طبيعتها المتفردة، بما يتضمنه “سر الطائر على الكتف”. فالأسرار والإشارات إحدى

مقومات عالم التصوف. لم يدرك الشيخ أحمد لغزه سوى بعد غوصه في لذة الباطن،

وعودته بعد تحرره من الأردية على صهوة الشوق والتوق لزوجته أروى، إذ قال لها في

ص 192 “أنت الأصل في هذا الفضل، والطائر على كتف عيسى لم يكن سوى إشارة

واستئناس“. و في ص60 يقول “إن إشارة الطائر إنما هي استمالة على مثال الإشارات

التي تأتي لمن كتب له كشف بعض الحجاب

فالكاتب باقتدار الكبار الماسكين بزمام فن الكتابة الروائية والعارفين بأسرارها، استطاع أن

يبني صرح منجزه الأدبي المتفرد هذا، ملتزما بأسس هذا الجنس التعبيري الراقي، علما

فالموضوعات و التيمات، تدور في مجملها في فلك التصوف الذي هو مجال الحال قبل أن

يكون مجال المقال. فكما ورد في خلفية الكتاب “رواية تشبه قراءتها العيش في زاوية

لأربعة عقود في رحاب المجاهدة“. الرواية حافلة بالرسائل  و الإشارات والدلالات نورد

بعضها، كالآتي:

أولا، واحة الشيخ أحمد الفاضلة:

فإذا كان أفلاطون قد أخرج العبيد من دائرة صناعة القرار بمدينته الحالمة، وحرمهم

من حقوق المواطنة، وأجبرهم على الخضوع والطاعة لسادتهم، وإن كانت الإمبراطورية

الرومانية أشد قسوة. إذ منحت للسادة الحق في قتل العبد لو أراد ذلك، فإن التوفيق جعلهم في

شخصية أروى زوجة الشيخ أحمد و شخصية العبد عيسى في أعلى قمة الهرم الاجتماعي.

إنهم الآمر الناهي في الواحة. بيدهم مقاليد كل صغيرة وكبيرة بواحة تينونا (ذات الآبار)، بما

تحصلوه من حكمة. حكمة طبعا ليست كحكمة أفلاطون القائمة على القوة العقلية والجسمية

والفلسفة لتولي حكم مدينته المثالية، فحكمة التوفيق لها مسارات مغايرة تماما. إنها  الاشتغال

على النفس وتحريرها من المتعلقات الدنيوية (المال والجنس والرئاسة)، قد تستغرق عقودا

كما الشأن بالنسبة للشيخ أحمد، وقد تدرك في ليلة واحدة كما الشأن بالنسبة لأروى على

أعين السادة. يوثق الشيخ أحمد لهذا بعدما بلغ شأوا في مدارج السالكين في ص175،

حتى حد ما شاف اللي شفتو        غير الرسل و الأوليا

   غزال سبقات هد الفرس             صارت ليها عليه مزية

                    شلا من عوام وهو يجري            وهي فليلا قضت قضية

إليهما يعود الفضل في تحرير كل عبيد الواحة، وامتد التحرير إلى ما حولها. إذ أصبحوا

شركاء في العمل والإنتاج وأصبح أبناؤهم يتمتعون بحقهم في العيش الكريم والتعليم.

أكثر من هذا فعيسى وهو العبد القادم من السودان، بتدرج أنزل الشيخ أحمد من علياء

المشيخة ليرتقي به نحو السماء في مدارج السالكين ليعود به من جديد متحررا من كل متعلقات

الدنيا، يقول في ص80 “أول ما يتعين عليك أن تحرر كل من عندك من العبيد رجالا ونساء“،

فكانت الشرارة الأولى التي فتحت عليه أبواب جنهم من قبل الأعيان. بعدها أمره قائلا في

ص 145 “تنزل إلى الأسواق وتتسول، وتتحمل التنقيص من قدرك، لاسيما من جانب الذين

لا يحبونك في هذه الواحة“. وهو يلبس مرقعة بالية، ويمد يده إلى المارة  يجتمع عليه الأولاد

يتبعونه ويتغنون قائلين في ص 146:

هاذا شيخ وكا يطلب   واش خلا للي به اجرب

                        هو شيخ وكا يسعا      ارزقو يا ربي شبعا

فكان لا يزيد أن يردد قائلا في ص 147

سيادي قالو لي نطلب            وما ليا حاجة بفلوس

همي نكسر هاد الأنا             ريحتها بحال الخنفوس

بعدها أمره ليحمل القربة عن السقاء ويبيع الماء في السوق ص151. ليس هذا وحسب إنه

أصبح يدور في السوق حتى إذا وجد كلابا يعانقها ويقبلها من فمها ويخاطبها ب”أسيادي“،

وسط سخرية الناس، وهي الحادثة وثق لها بأبيات جميلة يقول فيها ص159

شافوني الناس كنبوس الكلب        قالو عقلو غيرو سرقو

أنا ما شفت ف عين الكلب          غير الحنان د اللي خلقو

اعيا ما يبكي على حال الناس      اعيا ما ينبح ولا فاقو

وكان عيسى يتولى الرد عليهم بقوله “دعوه يعبد ربه كما يشاء“146. فعيسى بأمر من أسياده

كان مهندس الانقلاب الذي عرفته حياة الشيخ أحمد سواء في علاقته الخاصة مع زوجته التي

كان وراء أمره بتطليقها أو علاقته بأعيان الواحة خاصة لما واجهوه بشراسة محاولين ثنيه

عن تحرير العبيد. إنه يهدد مصالحهم المادية والمعنوية، بل وحتى علاقته بالسلطان، فهو من

كان يتولى اختيار الهدايا السنية له و تحرير الرسائل و تجديد البيعة، ردا على ما كان يتوصل

به من تقارير كيدية تشكك في ولائه، ممن لم يكن في مصلحتهم ما تعرفه الواحة من تغييرات

جذرية.  حتى إنه عند مشارف الانتهاء من الرواية تولى قيادة الواحة بظهير سلطاني “مع

إطلاق يده دون إشراك أحد حتى تسير شئون الواحة على مقتضى أعرافها” ف “اتخذ عيسى

نظاما مجددا للواحة بحيث يستشير في كل أمورها مجلسا مبتكرا غريبا يجمع بين الأعيان

وبين العوام” ص 234.

ثانيا انتصار الرواية للمرأة:

في شخص أروى حليلة الشيخ أحمد بطلة الرواية، إنها الفاعل الرئيس فيما اعترى خط

الأحداث الكبرى من تحولات، تقول للشيخ “دفعتك أنا لمصير أظنه الأسمى” 74، فهي من

توجهه “قال عيسى: سيدتي تحظى عند أسيادي الغيبيين بتعظيم كبير، ويسمونها ب”جذوة

الاقتباس”، ولعلهم يقصدون أنها ستنير لكم الطريق” 57 فكان ما كان من أمره، بالتحرر

من أردية النفس. و في سياق آخر نجدها تقول “خشيت عليه أن تتأذى شخصيته الورعة

وعواطفه السامية و أن يصبح مجرد فحل بشري تتهدده هاوية النهم، فأخذت تهيؤه لمصير

آخر، وذلك بالحديث معه عن أصناف من الناس الذين جمعوا بين التنعم بالطيبات وصرف

الهمة إلى المكرمات“19 و بهذا ولدت لديه طلب المعرفة الربانية و السير على درب

السالكين، كما الشأن بالنسب لشهرزاد مع شهريار.

و هو ما أكده بنفسه، يقول في 182 “قد أذن لأروى، بالإلهام، أن تسير بهمتي الروحانية

لترقيتي إلى الحدود المكتوبة لي” 182. وإن كانت تردد أكثر من مرة قائلة “لم نخطط شيئا،

ولكننا هدينا واتبعنا الإشارات” 282. فهي من كانت وراء ما باتت تعرف به الواحة من

سمعة طيبة في مدن الصحراء الجنوبية وحواضر ساحل تاركا (حوض نهر النيجر) …

صارت سمعة الواحة مقترنة أكثر من ذي قبل بنظافة المعاملات“223. وهي من وصفت له

نظام الحسبة، وتخصيص رأسمال تؤدى به ديون الغارمين وإنقاذ المفلسين بسبب “سوء

الطقس أو قطع طريق” وهي من أشارت عليه بالانفتاح على التجارة البحرية. واستمر

حضورها القوي حتى بعد أن وافته المنية، وأحلت محله ابنه نور بعد أن جلبت له جارية من

المشرق أيضا خريجة ديوان التهذيب وئام المكنات بفانو، تفوقها لم يقتصر على مجال العلم

والمعرفة والروحانيات والتطبيب والطبيخ والموسيقى والغناء و أساليب الغنج، بل تعداه إلى

القوة وتقنيات الدفاع على النفس تقول في ص264 “تعلمت فن الدفاع ولا أريدك أن تحاول

فتردعك امرأة، والرجال لا يقبلون هذا“، وتزيد مفسرة لما صرعت خادما قويا أغراه

بالجسارة عليها ليختبرها “مولاي: القوة في النفس، ليست في العضل. قال: كيف ذلك؟ قالت:

فينا مواطن ضعف نؤخذ منها، ومنها احتقار الغريم من حيث حجمه، بينما هو أقوى منا من

حيث عزمه، ولا سيما الظالم فهو حامل للضعف في نفسه، بينما يحمل المظلوم قوته فيه

ثالثا، ثنائية التصوف و الحكم

الرواية أعتقد إنها غير مسبوقة، نزل الكاتب بكل ثقله الأدبي ليؤكد روائيا ما يمكن أن يقوم

به التصوف من أدوار طلائعية في عملية التغيير الجوهرية. لم يكن اعتباطا أن يكون حصن

المشيخة أو بلاط الحكم فضاء جل أحداث الرواية من مبتداها إلى منتهاها، تأكيدا منه أن

التشوف والسلوك إلى الله ليس غاية في حد ذاته. فالشيخ أحمد بعد سفره في مدارج الروح

عاد أكثر تأهيلا لممارسة الحكم، يمشي في الأسواق ويأكل مع الناس ويمارس حياته الطبيعية

بكل أريحية. جاء على لسان عيسى في ص 178″ فالإنسان الكامل عبر تحرراته يظهر

وكأنه يصعد إلى السماء، وإذا عاد إلى الأرض يظهر إنسانا عاديا، ولكنه استبطن قدرا من

حقائق البحر، وأن كان عاد إلى البر“. في الرواية إشارات قوية إلى الحكم، فنجده مثلا يقول

على لسان عيسى في ص168 “إشكال الإنسان أنه يتقمص حال المالك الباطل مع وجود

المالك الحق، ويفعل فعل الوهم مع الفاعل على التحقيق، وقد قضى ربك أن يتملك الناس

ويعملوا، ولكنهم في باب رد الملك والفعل إلى صاحبه يتملكهم الاستبداد من حيث يظنون

أنهم يملكون، وحول هذا الأداء تتشكل بؤرة هواهم الذي يتخذه البعض منهم إلها، هذا ما

يراد لك أن تتقيه بالتوحيد، فيكون السبيل إلى التوحيد هو اتقاء الأنانية” وورد على لسانه

أيضا في ص119، يرد على أحمد لما هاله قول الناس بأنه لم يخرج للصيد ويحضر أعراسهم

و ضيافاتهم فكأنه ميت في سربه “ومن اليقين أن تؤمن بما هو صائب ومنه الالتزام بالعيش

على القليل والتخلي عن التبذير في المأكل والملبس ونبذ نظرة من يرى أن الذي يأكل

ويلبس مثل المحتاجين لا يستحق أن يسود عليهم، مع أن أخلاق الأمر هي محل نظر العامة،

فوجب أن يقتدوا به لا أن يرهقوا أنفسهم ليقتدوا به إن كان من المسرفين”. أعظم من ذلك

فهو يشترط على الحاكم قائلا “إذا كان ثمن التأديب بالحكمة غاليا، فالمؤهل من الرجال لحكم

الناس لا بد أن تكون صاحبته مؤدبة بالحكمة، لأن ذلك يعود بالخير على الآخرين و

الأخريات؛ قال تقصدين أن نساء أولياء الأمور بالذات لا بد أن يكن مؤدبات بالحكمة؛ قالت:

الأمر كذلك” ص 195. الكاتب مؤرخ كما هو معلوم، فهل كان لهذه الخلاصة البليغة علاقة

بمجموعة من الأسماء المغربية كان لهن حضورهن الوازن في مجريات أحداث دول أزواجهن

السلاطين من أمثال زينب النفزاوية زوجة يوسف بن تاشفين، و خناتة بنت بكار زوجة مولاي

إسماعيل و قبلهن كنزة الأوربية زوجة المولى إدريس وغيرهن كثيرات.

 قبل الختام:

لا بد من التأكيد على جملة أمور نوردها كالآتي:

أولا رواية “واحة تينونا” ليست كأي عمل روائي آخر، فمقامات التصوف وسلوك دروبها في

اتجاه مشارف الحلول هو عالم الأحوال. التوفيق بتمكنه من صرة المحكي السردي، وبحكم

تفاعله وانفعاله بعوالم التصوف “فليس من رأى كمن سمع”، استطاع أن يجعلنا في خضم

بحره، بلغة التصوف الرامزة. ف”المصطلحات هي مفاتيح العلوم”على حد تعبير الخوارزمي.

الرواية مفعمة بكل ما يتعلق بالتصوف دوالا ودلالات. بفنية عالية استدعى الكاتب كل الرصيد

المعجمي للتصوف، فنجد “الإشارات” تتكرر عشرات المرات في سياقات مختلفة وبصيغ

متنوعة (إشاراتك، “وبقيت أنتظر الإشارات” ص45، “ثم إن هذه الجارية ألقيت لها إشارات

سابقة تتعلق بك وبهذا الأمر“180. و “الأسياد” عشرات المرات، يقول عنهم عيسى في ص

55 “لا أراهم، ولكنهم يتحدثون إلي“، و “الرؤيا” لا تكاد تخلو صفحة من ذكرها، حتى إنه

لا نبالغ إذا أقررنا أنها كانت وراء كل القرارات المفصلية في أحداث الرواية. ونجد الحديث

بإسهاب عن الفتوحات و الفيوضات والكرامات، وكذا كشوفات الحجب والبشارات و الإلهام

و المقامات و السلوكات والإدراك والصفاء الروحي وغيرها كعالم الأسرار والواردات…

ففضلا عن اللغة، نلفي صيغة المبني للمجهول أكبر من أن تحصر، في ص191 يسأل عيسى

الشيخ أحمد في معزله “ماذا رأيت أو شاهدت أو كوشفت به؟“، وفي ص204 نجد “لكن

الناس بحاجة إلى أسوة السابقين الذين كُتب لهم الفضل بمجاهدة أو بغير مجاهدة” وفي

ص239 “كوشف عيسى بما يدبره الأعيان“، في ص37 “أريد لك أن تكون كما قدر لك

وجاء في ص182 على لسان أحمد “وقد أُذن لأروى، بالإلهام أن تسير بهمتي الروحانية“.

فمن الكاشف؟ ومن المبشر؟ ومن المقرر؟ ومن الفاتح؟ ومن؟ ومن؟ نتساءل ونعلم أنه ليس

من مهمة الكاتب أن يملأ كل بياضات منجزه الإبداعي نثرا كان أو شعرا أو تشكيلا. كما لم

يفت الكاتب بفنية عالية أن يؤثث روايته الفريدة، بما هو من أساسات التصوف، يتعلق الأمر

بالحضرة و الأناشيد الصوفية عادة تؤدى بشكل إيقاعي، لما لها من تأثير في نفوس السالكين،

نجد مثلا في ص 152على سبيل التمثيل يؤكد على تيمة “العطاء” ترددت مرات ومرات في

الرواية،

                         أنا نسقي وانا عطشان      أنا نكسي وانا عريان

                         أنا أنا أنا أنا                 بها عيشي كولو بهتان

وفي ص 143، يذكر

قلبي مريض مريض       تعالجوا يا رب يبرا

وقال واحد مسرار        ما دواه إلا الحضرا

وفي ص 177 يقول

طلع النهار على الأقمار ما بقى إلا ربي      الناس زارت محمد وأنا سكن لي في قلبي

ثانيا، الأدب هو السؤال برقي، نتساءل ونحن نبحر في منجزه الإبداعي الفريد، عما إذا كان

هاجسه أن يصحح مسار ما بات عليه التصوف من طقوس جرفته عن سيرة رجالاته الأوائل،

ممن كانت زواياهم قلاعا للتربية الروحية، و إبحارا في العلوم والمعرفة، وسدودا منيعة ضد

كل من تسول له نفسه المس باستقرار الوطن من الداخل أو الخارج ممن يهددون ثغوره؟

فالطقوس لم تكن أبدا مقصودة لذاتها، بقدر ما كانت جسورا للأنفة والاستعداد للتضحية بما

يملكه السالك رئيسا كان أو مرؤوسا؟

ثالثا، الأدب في جوهره صنو القلق، أمر محير حقيقة حول خلفيات منحى الرواية

بخصوص ربط كل التحولات الجذرية التي عرفتها الواحة بجارية من المشرق وعبد من

السودان ليبقى الشيخ أحمد سوى واجهة بلا حول ولا قوة إلى أن تعرض للاغتيال، ويستمر

الوضع مع خلفه نور و زوجته من السند أيضا؟ ألا يقال “أن المغرب بلد الأولياء والمشرق

بلد الأنبياء” وأنه “ينبت الصالحون بالمغرب كما تنبت الأرض الكلأ“؟ فهل التصوف

المغربي بكل أطيافه عقيم إلى هذه الدرجة، تجعله يعجز عن تخريج مثل أروى ووئام

وعيسى ليتولوا تحرير الشيخ أحمد من الأردية، ويكونوا سنده في سياسة المشيخة وتجارتها

وعلاقاتها، أم الحبكة الدرامية اقتضت من الكاتب أن ينوع جنسيات شخصيات روايته و

يوسع من فضائه المكاني ليشمل المشرق والسند وبلاد السودان فضلا عن المغرب؟

رابعا، ما الذي دفع الكاتب ليختار هذا المنحى ويربط التغيير بالماورائيات يعبر عنها

بالأسياد على لسان عيسى في ص 71 “سيدي أمرك كله بعد العهد بأيدي أسيادنا“، هل هو

طغيان الماديات و اليأس من حلول الأرض بكل تياراتها اليمينية واليسارية ووسطها، ليبقى

التصوف هو الملاذ، يجد سنده التاريخي، وهو المؤرخ، في ارتباط معظم الدول التي

تعاقبت على حكم المغرب بالحركات الصوفية، الذين عادة ما يكون سندهم الانتماء لآل

البيت؟

و تبقى هذه الرواية مفتوحة على قراءات متعددة. قد يجد فيها السالك ما يشبع نهمه على

درب مدارج السالكين، وقد يجد فيها السياسي ضالته، إشارات قوية تهم الحكم والمشيخة

والشروط الأساسية في الحاكم وفي شريكته، ويجد فيها الأنثروبولوجي مادة خام عن بنية

القبيلة وما يحكمها من أعراف وعادات وتقاليد، ويجد فيها الأديب بغيته، فالرواية حافلة

بمقومات المحكي السردي؛ لغة انسيابية وحبكة درامية محكمة وصورا شاعرية بليغة.

عن Xalid Derik

x

‎قد يُعجبك أيضاً

الكتابُ … / بقلم: أحمد بريري

  الكتابُ خيْرُ صحْبي فيهِ تلقَى المعْلوماتِ منْ علومٍ وقرِيضٍ وتاريخِ الموجوداتِ ...

أحلم بعيون ذكية / بقلم: سامح أدور سعدالله

أحلم بعيون ذكية أتغمض عيناي الغبية  ذكائي؟ تلك هي المعادلة التي تحتاج ...

قصيدة”سكارى بالكرة” للشاعر مصطفى معروفي/ بقلم: عبد الرحمن منصور

1ـ القصيدة: سكارى بالكرة شعر:مصطفى معروفي نظـلُّ بهـا علـى وهْــمٍ سـكـارى***و قد ...

الفصام / بقلم: عــبــدالناصر  عــلــيوي الــعــبيدي

  ———- الــصدقُ فــي الإنــسانِ خيرُ فضيلةٍ فــــعــلامَ تــكــذبُ أيــهــا الــكــذابُ – ...

أشياؤها الخمس / بقلم: فراس حج محمد

  [محاولة رثاءِ امرأةٍ ضاعت في جنون الحرب]   أشياؤها الخمسُ التي ...

الأخلاق في رواية عشيق السيدة تشاترلي للكاتب دي إتش لورانس / بقلم:محمد عبد الكريم يوسف

  أثارت رواية دي إتش لورانس “عشيق السيدة تشاتيرلي” الجدل والنقاش منذ ...

السياسة في أنتوني وكليوباترا / بقلم: محمد عبد الكريم يوسف

    في مسرحية ويليام شكسبير “أنتوني وكليوباترا”، تلعب السياسة دورا مركزيا ...

نزل المطر/ بقلم: آمنة بريري

نزل المطر   فاصطبغ الكون بالصفاء والسموّ   وسرت نسمات شذيّة تلامس ...

واحة الفكر Mêrga raman