الرئيسية / قصة /     حورية البحر/ بقلم: شارا رشيد

    حورية البحر/ بقلم: شارا رشيد

شارا رشيد

                  حورية البحر/ بقلم: شارا رشيد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  عينان لوزيتان سرقتا بريقهما من النجوم، وشعر مسبول أشقر يشبه أشعة الشمس في لمعانه، أنف متّسق، وشفتان ممتلئتان زاد وجهها المكتمل في استدارته حسناً وجمالاً، طفلة ناصعة البياض، لما ولدتْ كانت بالكاد تميَّز عن القماط الأبيض الذي كان يلفها، ولجمالها الأخاذ سمّيت حورية، وما انفكت أُمها تناديها بـ (حورية البحر).

غيرَ أنَ الجمال لمْ يشفع لحورية لتنعم بطفولتها، تلك التي اغتالتها الحياةُ بلا هوادة، ما أن فتحتْ عينيها على الدنيا، حتى وجدتْ نفسها وريثةَ أمها في خدمة بيوت الأغنياء، لمْ تنعم يوماً بما ينعم به أقرانها الصغار من دلال واهتمام، كانَ عليها أن تنسى طفولتها لتعتني بأطفال الآخرين، تلاعبهم وتسليهم وتطعمهم، تحمل عنهم حقائبهم وتساعدهم في ارتياد باص المدرسة، ومن ثم تعود لترتب ما تركوه من فوضى بألعابهم وكتبهم وملابسهم بعد ذلك تساعد أمها في ترتيب وتنظيف المنزل، لتبرر وجودها مع أمها. أدركت حورية مبكراً بأن الحياة مليئة بالتناقضات وأن الطفولة حكر على أطفال الأغنياء، وليس لأمثالها سوى التمني والنظر من بعيد إلى ذلك العالم السحري المفعم بالحب والدلال، تراقب طفولتها وهي تشيخ ولا تملك غير أن تغالب سرّاً دموعها اليتيمة.

لم تكن حورية بلغت الثانية عشرة من عمرها حينما فارقت أمها الحياة، وتركتها رهينة ذلك المنزل الذي وجدت نفسها فيه يوم صافح النور عينيها، فعرضت السيدة على أبيها أن يبقيها في بيتهم إكراماً لأمها التي خدمتهم لسنين طويلة بإخلاص وتفاني، وتستمر في العناية بولديها الصغيرين الذين اعتادا عليها، ما أنقذَ الأب من عبء رعايتها. لم تكن حورية تعرف معناً للكراهية أو الحب، لم تتسلل الغيرة من الولدين الصغيرين إلى قلبها بتاتاً، لكنها كانت دوماً تسرح في معنى أسمها الغريب… حورية البحر.

كبرت حورية وكبر معها أسمها، حتى صارتْ تعتقدُ بأنها سليلة تلك المخلوقات الجميلة وبأن شيئاً غريباً حدث ذات يوم وأتى بها من البحر إلى اليابسة، الأمر الذي جعلها تنتظر رحلة الشاطئ مع السيدة وأولادها في عطلة الصيف بشغف وحماس وشوق مَنْ أغترب عن موطنه وأزفت ساعة رجوعه.

ذلك الصيف لم يكن مختلفاً عن غيره ،البحرُ هو البحر ، والسماءُ هي السماء ،السيدةُ استلقتْ على الرمل بعدما مَسحَتْ جَسدها العاري إلا من البكيني الأصفر، بواقي الشمس ،ولبِستْ نضارتها الشمسية الكبيرة ذات العدسات السوداء، الأولاد على عادتهم يمرحون في البحر ويلعبون بالرمل ، وحورية تقف على قدميها  ، تحملُ في يديها المناشف ، تلفهم به  كلما خرجوا من الماء لكي لا يبردوا ،وتراقبهم كحارس أمين ، وبينما الكل يستمتع بالماء والهواء والشمس والزرقة الممتدة ، ظلت حورية واقفة  تراقب مدّ البحر وجزره بعينين متسائلتين حزينتين ، تسقط  منهما بين الفينة والفينة ، دمعة تعكس حزناً عميقاً بلا قرار ، فتأخذها أحلامها بعيداً  ليلامس ماء البحر المالح قدميها الصغيرتين وتطفو فوق أمواجه ، فتنضم إلى  سرب من الحوريات الحسان ،بنات جنسها اللواتي شغلوا مخيلتها منذ أعوام طويلة ،وبخطى وئيدة ، خطوة تليها خطوة ،اقتربت منهن وأمسكت بيد أحداهن ممدودة إليها ،ومن ثم يد حورية ثانية،  ليشكلوا دائرة من ثلاث حوريات ، يتمايلن ويتراقصن في الماء  ،يرددنَّ أغاني الطفولة المغتالة .رويداً رويداً ابتعدت حورية عن الشاطئ دون أن يهتم لأمرها  أحد، أخذها الموج  بعيداً إلى أعماقه السحيقة  حيث لا عودة  ،ولم يترك على الشاطئ سوى أسمها الجميل خجولاً ووحيداً.

 

الكاتبة والتشكيلية شارا رشيد            

عن Xalid Derik

x

‎قد يُعجبك أيضاً

القيم الاجتماعية في عشيق الليدي تشاترلي للكاتب دي اتش لورنس/ محمد عبد الكريم يوسف

في رواية دي إتش لورانس المثيرة للجدل، عشيق الليدي تشاترلي، يلعب موضوع ...

آهٍ إن قلت آها / بقلم: عصمت دوسكي

آه إن قلت آها لا أدري كيف أرى مداها ؟ غابت في ...

الكتابُ … / بقلم: أحمد بريري

  الكتابُ خيْرُ صحْبي فيهِ تلقَى المعْلوماتِ منْ علومٍ وقرِيضٍ وتاريخِ الموجوداتِ ...

أحلم بعيون ذكية / بقلم: سامح أدور سعدالله

أحلم بعيون ذكية أتغمض عيناي الغبية  ذكائي؟ تلك هي المعادلة التي تحتاج ...

قصيدة”سكارى بالكرة” للشاعر مصطفى معروفي/ بقلم: عبد الرحمن منصور

1ـ القصيدة: سكارى بالكرة شعر:مصطفى معروفي نظـلُّ بهـا علـى وهْــمٍ سـكـارى***و قد ...

الفصام / بقلم: عــبــدالناصر  عــلــيوي الــعــبيدي

  ———- الــصدقُ فــي الإنــسانِ خيرُ فضيلةٍ فــــعــلامَ تــكــذبُ أيــهــا الــكــذابُ – ...

أشياؤها الخمس / بقلم: فراس حج محمد

  [محاولة رثاءِ امرأةٍ ضاعت في جنون الحرب]   أشياؤها الخمسُ التي ...

الأخلاق في رواية عشيق السيدة تشاترلي للكاتب دي إتش لورانس / بقلم:محمد عبد الكريم يوسف

  أثارت رواية دي إتش لورانس “عشيق السيدة تشاتيرلي” الجدل والنقاش منذ ...

واحة الفكر Mêrga raman