الرئيسية / آراء قكرية ونقدية / التجريد المعنوي والتصوير الواقعي في أعمال روان سكر/ بقلم: د. ممدوح أبوزيد

التجريد المعنوي والتصوير الواقعي في أعمال روان سكر/ بقلم: د. ممدوح أبوزيد

التجريد المعنوي والتصوير الواقعي في أعمال روان سكر

بقلم: د. ممدوح أبوزيد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

في رحلةٍ شيقةٍ – تخترق من خلالها جدار الزمان والمكان- تسافرُ الفنانة السورية دكتورة روان سكر إلي عالم الخيال والفن والإبداع، حيث الزمان غير الزمان والمكان غير المكان، تطوفُ بريشتها وسط النجوم، مطلقة العنان لخيالها لتعبّر عن ذاتها ومجتمعها أيما تعبير، تلقي بنفسها في أحضان الليل لترسم ضوء المساء، تؤلف بين المتضادات لخلق عالم جديد لواقع متنافر، تسطّرُ لوناً بهياً لرُوحِ المعني، ترنو إلي آفاق الخلودِ في عوالم اللون والظل والجمال، معبرةً عن جمال نافذٍ وصورٍ أخّاذة، عميقة في دلالاتها الكامنه، متجاوزةً الكثير والكثير من المتاعب والشواغل التي تملكُ عليها تفكيرها، رافضةً موت الورود التي هي سر الحياة، ففي موتها لن نسمعَ البلبلَ يروي سيرته بعد اليوم، هنا كانت وحيدةٌ مع نفسها، هادئة، عاشقة، تحملُ روحاً مفعمةً بالأفكارِ الخلابةِ التي تنهمرُ من خلال ريشتها، ترسمُ بقلبها كما لو كان نجمٌ في ليل حالك، تمزجُ بين رؤآها الواقعية وتصوراتها الذاتية لتغير صورة الواقع، تحاورُ من خلال فنها جدليةَ البقاء/ الفناء، فأفكارها تأتي من عمق مخيلة مفعمة بالامرئي، قدرة علي الحوار الذي يجمعُ بين بساطة التعبير وانطلاقاته، تبادلاتٍ غامضةٍ بين أفكارها وأعماقِ الحياة، تحلم ُبخلاصِ البشرية من ويلاتِ الحروب التي يعاني منها وطنها، تغني للعناة الكادحين، تقاوم أشباح الموت. إنها لاتيأس من أن تطرقَ السعادة بابها يوماً، تحاولُ أن تجدَ العزاء فيما تنتجه من أعمالٍ فنية، مؤمنةً بمقولة فان جوخ لأخية ثيو (وظيفة الفن هي تقديم المواساة لمن حطمتهم الحياة) وكأن الفن هو اليوتوبيا التي تحتمي بها من قسوةِ واقعها، في فنها تستبدلُ الوحدة والإنسجام بالنزاع والخلاف والنتيجة هذا الصراع الدائم في لوحاتها، والذي يشكلُ وجوداً أساسياً وخطاً واضحاً في جميع أعمالها الفنية. في لوحة تُزينها لغةٌ ناطقةٌ ومعني عميق تتدفقُ الأحاسيس، تنكسرُ مرارة البعد والإغتراب، يتصاعدُ ضوء الشمس- حيثُ جلالٌ الصمتِ ورهبة السكون- من مشاعرَ متاججة في خبايا نفسٍ متعبةٍ محملةٍ بهموم وطن، تولدُ الرحمة ُمن رحم القسوة وينبلجُ النورُ من ظلامِ العتمة، ويسطعُ الفرحُ من بقايا أحزان، ربما عبّرت تلك الورود بمدلولاتها الرمزيةِ عن قضاياها وشواغلها الإنسانيةِ أكثر من كونها آلام وأحزان لنفسٍ رقيقةٍ عانت إلي أقصي مدي من الغربة، والبعد عن الوطنِ والأهلٍ والخلانِ، وذكريات لم تزل ثاويةً في القلب رغم الأحزان، تناطحها كل موجةٍ ، وتلطمها كل ريحٍ، وهي وطيدة لاتلين، ولاتتساقط من الصدمات والأهوال، فهي لاتعرف السكون ولا الإستسلام ، تحمل علي عاتقها أمل اللقاء، وكأنها تبثُ قول الشاعر الرقيق فاروق جويدة:

منذ انشطرنا والمدي حولي يضيقُ

وكل شئ بعدها عمر ضنينُ…

ثمة أشكال ومناهج متنوعة تكتنف أعمالها، فريشتها لا تعبر عن ثنائيةِ النور والظلام، الخير والشر، العنف والهدوء فحسب بل تجعلُ كل منهما يتعالج ويلتحم مع الآخر لتنسجَ علاقاتٍ متعددةٍ، مانحة الصورة الفنية أعمق تعبير وأقوي تأثير، تنطلقُ في عالم الفنِ، محطمة كل القيود والحدود، قوة في التعبير والتفسير عن ثنائية الشكل والمضمون (المظهر والجوهر)، إبداعٌ بصري تنسج من خلاله حواراً تقرؤه بعينيك وتتذوقه بإحساسك، وهي ترتكز في هذا علي جوانب روحية، تفصح عنها تلك الألوان الرقيقة التي تحمل طابع البساطة، شروحات كافية تجعلها مختلفة جوهرياً عن مثيلاتها. في الوقت ذاته تتعامل مع قضايا واقعية وأخري جدلية، عارضة أفكارها ورؤاها من منظورها الفني الذي يميزها.  تلك هي النقطة الفارقة في فنها والتي تجعل العلاقة بينها وبين المتلقي علاقة الجسد بالروح كل يكمل الآخر، فجاءت ريشتها سلسة كالماء الرقراق المنحدرفي سهل دمث من الأرض. مع بداية عام جديد ملئ بالأحداث المتنوعة آثرت أن تبعث للعالم أجمع باقات حب وسلام وكأنها تقول: نحن بلاد الزيتون ومهد الحضارات لانعرف سوي الخير والجمال بالرغم مانتعرض له من مؤامرات ودسائس، نحن أكثر نبلاً وإيجابية، تاريخنا وتراثنا يحكي عنا وعن قِيَمنا الإجتماعية والدينية التي كانت موئل الحضارات، وشمس لاتغيب وذلك من خلال لوحتها ( جوري) التي تكتنفها صورٌ غامضةٌ مفعمةٌ بالحياة، ودرجات متفاوتةٍ من الجمالِ المعبر عن عوالمَ كثيرة لانستطيعُ إدراكها مهما غصنا فيها، مجموعة من الصراعات المتباينة فيما بينها مُزَينةٌ بكافة الفضائل، تناغم لوني وشكلي جذاب يشف عن خبرة تراكمية في كيقية مد الجسور والمعابر بين المتناقضات، فيظل العمل باعثاً علي التشويق والمجادلة، فالشئ ونقيضه يمكنُ ملاحظتهما بالإمعانِ في هذا العمل من خلال المزج الجميل بين الرمزية والإنطباعية في عمل واحد، فهي تبرز المعاني التي تريدها بالتباين والتناقض بين الحب الإنساني والروحِ الوثابة المحبة ِللعالم أجمع وبين دمار الحربِ والكره البغيض، تعيش في تصوراتها بقدر عيشها في الواقع نفسه، يتجلي ذلك من حرصها الدائم علي التوفيق بين التجريد المعنوي والتصوير الواقعي، فالواقعية في أعمالها تتجاوز الإطار الذاتي إلي ماورائه من أهداف، تعالج الواقع وكأنها تسجل وترصد تجاربها الخاصة بين دنيا الواقع وعالم الخيال، فالفن ليس مجرد تعبير عن المشاعر الذاتية فحسب بل هو تفسير للحياة ونقدها، الحركة والتكتل الدرامي في اللوحة يشعرانك بأن الفكرة تنبثق عن تجربة الفرد والجماعة، ولأنها دارسة للأدب وعلومه فقد بدت متأثرة تماماً بالمنهج الشكسبيري والذي يستعين بالعقدة الثانوية الي جانب العقدة الرئيسية منذ البداية إلي النهاية بقصد إعطاء المغزي الذي يريده قوةً وعمقاً، وذلك عن طريق التطابق أو التقابل. علي عكس سمات الأدب والفن الإغريقي الذي يلتزم بالعقدة الواحدة الرئيسية. يظهر ذلك جلياً في رمزيتها بالورود المتألقة، المتفتحة، المفعمة بالحياة والجمال، السابحة في إشراقات من الضوء، ذات الأوراق الخضراء والألوان الزاهية وكأنها نجومٌ مضيئةُ في سماوات الكون، رامزة بها إلي الجمال والخير والسلام والبهجة بكافة أشكالها، وبريقها الذي لايخطف البصرَ فحسب إنما ينفذُ إلي أعماقِ النفس وأغوارهاِ.

وعلي النقيض من ذلك تقبعُ في الخلف- بين ظل مرتعش، وضوء خافت- زهرةٌ وحيدة بأوراقها الباهتة ووجهها الحزين، مجهولة الهوية، لم تتفتح بعد، وكأنها تصارع الموت، توحي بالفقر، التخلف، عبث الغروب، الكسوف، صمت الكون، الخريف، الشعور بالقلق، الحيرة، الزيف، السخرية، الغموض..ألخ، وقد نجحت الفنانة في إعطائها اللون الأخضر الممزوج بالأبيض دون الإسترسال في تركيز الضوء عليها لتبدو أقل جمالاً واشراقاُ، فلا يبصر المتلقي فيها سوي أوراقها الأقل خضرة وتفتحها علي إستحياء فتبدو موحية بالخيبة والمرارة.

يمكن الزعم بأن العمل يرمز في وهجه وزهوره المتألقة إلي المجتمع الذي تحلم به، والذي لم تره ولم تجده الي الآن، وبين الشرق وحضاراته وعاداته وتقاليده التي لم تفلح في نهضته، وهذه لمحة تضيف للعمل قوة وتماسك. يحسب للفنانة إستخدامها الألوان المناسبة للتعبير عن أفكارها ورؤآها، فجاءت منسجمة من حيث الدقّة والهدوء، وتشكيل فضاءات متناغمة، تاركةً خلفية اللّوحة باللون الأصفر الرمادي لإعطائها حركة مغايرة، وإيقاع لوني غاية في الجمال.

صفوة القول: إن المكونات النفسية للفنان تلعب دوراً كبيراً في إبداعاته واختيار موضوعاته، فالفن ليس تقليداً للواقع بل هو إعمال فكر ووجدان تثريهما تجارب الفنان وخبراته، فالفن ليس حقيقة بصرية فحسب وإنما هو تعبيرعن فكرة إنطباعية ذاتية للفنان.


عن Xalid Derik

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

x

‎قد يُعجبك أيضاً

الكتابُ … / بقلم: أحمد بريري

  الكتابُ خيْرُ صحْبي فيهِ تلقَى المعْلوماتِ منْ علومٍ وقرِيضٍ وتاريخِ الموجوداتِ ...

أحلم بعيون ذكية / بقلم: سامح أدور سعدالله

أحلم بعيون ذكية أتغمض عيناي الغبية  ذكائي؟ تلك هي المعادلة التي تحتاج ...

قصيدة”سكارى بالكرة” للشاعر مصطفى معروفي/ بقلم: عبد الرحمن منصور

1ـ القصيدة: سكارى بالكرة شعر:مصطفى معروفي نظـلُّ بهـا علـى وهْــمٍ سـكـارى***و قد ...

الفصام / بقلم: عــبــدالناصر  عــلــيوي الــعــبيدي

  ———- الــصدقُ فــي الإنــسانِ خيرُ فضيلةٍ فــــعــلامَ تــكــذبُ أيــهــا الــكــذابُ – ...

أشياؤها الخمس / بقلم: فراس حج محمد

  [محاولة رثاءِ امرأةٍ ضاعت في جنون الحرب]   أشياؤها الخمسُ التي ...

الأخلاق في رواية عشيق السيدة تشاترلي للكاتب دي إتش لورانس / بقلم:محمد عبد الكريم يوسف

  أثارت رواية دي إتش لورانس “عشيق السيدة تشاتيرلي” الجدل والنقاش منذ ...

السياسة في أنتوني وكليوباترا / بقلم: محمد عبد الكريم يوسف

    في مسرحية ويليام شكسبير “أنتوني وكليوباترا”، تلعب السياسة دورا مركزيا ...

نزل المطر/ بقلم: آمنة بريري

نزل المطر   فاصطبغ الكون بالصفاء والسموّ   وسرت نسمات شذيّة تلامس ...

واحة الفكر Mêrga raman