الرئيسية / آراء قكرية ونقدية / التوليدية في الحراك المصمت للفنان بشير أحمد/ بقلم: زياد جيوسي

التوليدية في الحراك المصمت للفنان بشير أحمد/ بقلم: زياد جيوسي

التوليدية في الحراك المصمت للفنان بشير أحمد

بقلم: زياد جيوسي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كانت وما زالت المدرسة التشكيلية العراقية في الفن والتي ظهرت فعليا في بدايات القرن العشرين من أقوى مدارس الفن التشكيلي العربي، وإن كانت المدرسة التشكيلية المصرية المعاصرة هي الأقدم حسب اراء بعض الباحثين في تاريخ الفنون، إلا اني أجد أن المدرسة التشكيلية العراقية بجذورها منذ عهد الحضارة السومرية كان لها الأثر الأكبر والأقوى في انبعاث حركة التشكيل العربية، وبالتالي من أسسوا حركة التشكيل العراقية أمثال محـمد سليم والد الفنانين جواد ونزيهة ونزار، وفائق حسن وعبد القادر الرسام 1882-1952 وهو اول فنان يدرس في الخارج ويعود ويخدم وطنه بابداعه وحميد المحل وغيرهم العديد من الفنانين، أرسوا قاعدة صلبة لهذه المدرسة التشكيلية القوية والمبدعة، فأتى الفنانون العراقيون ليبنوا بنيانهم الفني المتميز ليراكموا على هذه القاعدة ويطوروا ويبتكروا  إبداعات جديدة ومختلفة..

فن الحفر والطباعة “جرافيك آرتس” لم يكن يشدني كثيرا، فغالبية الأعمال التي شاهدتها كنت أرى فيها فن مهني أكثر من إبداع تشكيلي، حتى حضرت معرض الفنان الشاب بشير أحمد “الحراك المصمت” والذي استمد اسمه من الصمت الكامن في الأسطورة البابلية ليحيل هذا الصمت إلى متواليات حركية تولد ثورة كامنة بمساحات ذلك الصمت، فوجدت نفسي في عالم مختلف من الفن، فن قائم على تراكم من التراث والفنون والإبداع والخيال مستندا على أسطورة بابلية، فلأول مرة أرى فيما شاهدت بهذا الشكل من الفن هذه القوة والتعابير ورواية الحكاية واستحضار التراث والتاريخ، فالفنان بشير ربط المعاصر بالقديم، الواقع والتراث بالأسطورة فأعاد احياء تراث قديم وأسطورة بالكاد سمعت بها الأجيال الحاضرة ، وربط العراق الآن بالعراق في عهد الحضارة البابلية، وحين نعود للأساطير القديمة نجد أن معظمها إن لم تكن جميعها ذات أصول سومرية ثم بابلية، فكل الحضارات في المنطقة اهتمت بخلق اساطير تعتمد على الطيور المحلقة الضخمة الأسطورية وعلى الحيوانات المجنحة، ولعلها رغبة الانسان في الطيران وهو يشاهد الطيور القوية كالنسور وغيرها، ورغبته أن يمتلك القوى الخارقة جعلت خياله يأسطر هذه المخلوقات من الطيور والحيوانات مثل الثيران المجنحة، وتصبح جزءً من تراثه وتاريخه وحضارته الثقافية والفنية.

التراث تراكم معرفي بنى عليه الإنسان عبر الآف من الأعوام صرح الحضارات، والأسطورة كانت بعض من أساس هذا التراكم، وحين رأيت اعمال الفنان في قاعة العرض التي تم تكريمه فيها بفوزه بجائزة رافع الناصري، شعرت أن الفنان قد استخدم فكرة النظرية التوليدية التحويلية لعالم اللسانيات نعوم تشومسكي وهي النظرية التي أحدثت ثورة في عالم وفضاء اللسانيات حتى وصف بأنه أبو علم اللسانيات المعاصر، وهذه النظرية القائمة على أسس عقلية حيث اعتبر اللغة والخاصة بالإنسان تنتقل من العقل إلى مراحل مختلفة ملموسة من خلال الكتابة والنطق والتفكير، فالكلمة تكون جمل أساسها الحرف وهذه الجمل بالتحويل والتغيير والتبديل تولد ألآف الجمل الجديدة بتسلسل هرمي أساسها الكلمة، فالنظرية قامت على اللغة ومن ثم انتقلت إلى آفاق العلوم الإنسانية والتطبيقية مثل علم النفس سواء التحليلي أو التطوري، من خلال نظرية النحو التوليدي والفلسفة التحليلية، حيث استخدمت النظرية في مجالات مختلفة وأسس نظرية في مجالات مختلفة ولعل علم الحاسوب أهمها انطلاقا من نظرية رياضية للغة، واستخدمها العالم نيلس يرني للحديث عن نظام المناعة في جسم الإنسان.

ومن هنا نجد الفنان بشير أحمد انطلق من الأسطورة البابلية كقاعدة لتوليد مجموعة لوحات بدأت في لوحة واحدة التي تروي حكاية الطائر “مدغود” الذي اتى لإنقاذ بابل فكسا السماء بالسحب السوداء في مواجهة ثور السماء المجنح الذي احرق الزرع بأنفاسه الملتهبة، لتتالى اللوحات متولدة من بعضها محللة هذه الحقبة الزمنية الطويلة منذ عهد بابل حتى الواقع الحالي بعشرة لوحات، مكتشفا كم للأسطورة البابلية من أثر على فن “الجرافيك” المعاصر، فأسقط الأسطورة من الزمن الماضي وحبكها كتجربة معاصرة متولدة من أساسها البابلي ومتحولة عبر القرون على الحاضر الذي يعيشه العراق، فكانت تجربته كما يراها حافزا على التغيير في مفهوم فن الحفر والطباعة “الجرافيك آرتس” من المهنية إلى الإبداع الفني، فهو يرى أيضا أنه في أعماق الأسطورة البابلية هناك صمت ساكن مخبوء وتفرد بالتأثير على الفنون التشكيلية، فلجأ للتوليدية لتحويل هذا الصمت الى صوت مرتفع من خلال تولد وتحول الأسطورة البابلية من جديد ليتولد فن “جرافيك” معاصر،  فالطائر أضعف من الثور ومع هذا انتصر عليه، والعراق أضعف من القوى التي تحالفت ضده ومع هذا لا بد سينتصر عليها، كما انتصر على المغول الذين ظنوا انه لن تقوم للعراق قائمة، لكن العراق كان دوما كطائر الفينيق الأسطوري يحترق وينهض من جديد من قلب الأسطورة، والحراك في العراق في مواجهة كل قوى الشر نجد وصفه من خلال اسم المعرض “الحراك المصمت” ولكنه سيخرج عن الصمت وعلى القمع وإصماته بالقوة، فالفن هو التعبير الانساني عن روح الانسان وما كان يجول فيها عبر التاريخ.

حين نتأمل لوحات الفنان بشير نجد انه اعتمد التضاد بين اللونين الأسود والأبيض، فالله سبحانه وتعالى واحد ولكنه خلق الكون على مبدأ الثنائية، فمقابل الجمال قبح، ومقابل الصحة مرض، ومقابل الكرم بخل، ومقابل الليل نهار، وأيضا مقابل الأبيض أسود، وهذه الثنائية التي قامت عليها فكرة إبداعية اعتمدها الفنان، فمازج الأسطورة باللون وخرج الينا بفكرة جعلت كل من يمتلك ذائقة فنية ويتأمل هذه الأعمال يشعر انه يحلق في فضاء بابل ويستمع للقيثارة البابلية تعزف وتنقل لنا أجمل الألحان، وهذا ما شعرت به وأنا من يعتز أنه رضع من مياه دجلة والفرات في أوائل سبعينات القرن الماضي، وإنني طورت ذائقتي البصرية والنقدية في الفن التشكيلي من خلال المدرسة التشكيلية العراقية، فالبكاد كان يفوتني معرض تشكيلي دون أن أشاهده، وكنت اقضي جل أوقاتي في كلية الفنون الجميلة القريبة من كلية الآداب التي كنت أدرس بها بعد أن لم يتم تحقيق حلمي بالقبول في كلية الفنون كون معدلي في الثانوية كان مرتفع ويؤهلني لكلية الآداب.

فاز الفنان الشاب بشير أحمد بجائزة الفنان الكبير رافع الناصري على لوحاته “الحراك المصمت”، والفنان رافع الناصري “1940-2013” يعتبر من كبار فناني ورواد الحفر والطباعة، وهي جائزة مخصصة للجيل الشاب بين 20 و40 عام، وفاز بها الفنان بشير من بين 20 متقدم عربي للجائزة، بناء على رأي لجنة التحكيم والتي ضمت ثلاثة من الفنانين الكبار المختصين بهذا النوع من الفن، وهم الفنانين الكبار ضياء العزاوي وزياد دلول ومظهر أحمد، والذين رأوا في اعمال الفنان العشرة المقدمة عملا قويا ومتميزا وتعبيريا مختلفا.

وخلاصة حديثي أنني ارى في هذه الجائزة للفنان عبئا على اكتافه تجعله في أي عمل قادم يسعى للأفضل والتميز، وأن يواصل طريقه الفني بمسؤولية واحتراف، فطريق الفن طويل وشاق ولا يصل أحد إلى نهاية الطريق، ومن يظن انه وصل القمة فهذا يعني أنه بدأ بالانحدار، فتهانينا للفنان وسأبقى ارقب رقيه وتقديمه الجديد، آملا أن يمثل اضافة في الصرح الفني العربي.

“عمَّان 15/2/2021

زياد جيوسي

عن Xalid Derik

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

x

‎قد يُعجبك أيضاً

الكتابُ … / بقلم: أحمد بريري

  الكتابُ خيْرُ صحْبي فيهِ تلقَى المعْلوماتِ منْ علومٍ وقرِيضٍ وتاريخِ الموجوداتِ ...

أحلم بعيون ذكية / بقلم: سامح أدور سعدالله

أحلم بعيون ذكية أتغمض عيناي الغبية  ذكائي؟ تلك هي المعادلة التي تحتاج ...

قصيدة”سكارى بالكرة” للشاعر مصطفى معروفي/ بقلم: عبد الرحمن منصور

1ـ القصيدة: سكارى بالكرة شعر:مصطفى معروفي نظـلُّ بهـا علـى وهْــمٍ سـكـارى***و قد ...

الفصام / بقلم: عــبــدالناصر  عــلــيوي الــعــبيدي

  ———- الــصدقُ فــي الإنــسانِ خيرُ فضيلةٍ فــــعــلامَ تــكــذبُ أيــهــا الــكــذابُ – ...

أشياؤها الخمس / بقلم: فراس حج محمد

  [محاولة رثاءِ امرأةٍ ضاعت في جنون الحرب]   أشياؤها الخمسُ التي ...

الأخلاق في رواية عشيق السيدة تشاترلي للكاتب دي إتش لورانس / بقلم:محمد عبد الكريم يوسف

  أثارت رواية دي إتش لورانس “عشيق السيدة تشاتيرلي” الجدل والنقاش منذ ...

السياسة في أنتوني وكليوباترا / بقلم: محمد عبد الكريم يوسف

    في مسرحية ويليام شكسبير “أنتوني وكليوباترا”، تلعب السياسة دورا مركزيا ...

نزل المطر/ بقلم: آمنة بريري

نزل المطر   فاصطبغ الكون بالصفاء والسموّ   وسرت نسمات شذيّة تلامس ...

واحة الفكر Mêrga raman