الرئيسية / قصة / عناقيد النار/ ربيع عقب الباب

عناقيد النار/ ربيع عقب الباب

ربيع عقب الباب

 

 

 

 

 

 

 

 

 

عناقيد النار

بقلم: ربيع عقب الباب

 

حين عرض علي الأمر، لم أفكر كثيراً، وافقته فوراً، و كان لزاما تعقبه، حتى في لحظات راحته …. نعم .. كيف اكتب عن شخص لا أعرفه؟

درت معه في أنحاء القصر، الذي يعيش فيه، أتعرف عن حجراته، وعلى التحف المتناثرة هنا وهناك، وأنا منبهر للغاية، وإن كنت أعي ما أسير فيه!

حتى تلك اللحظات التي كان يسترخي فيها، وهو يمضغ قطع الحشيش، أو الأفيون، ويتحدث إليّ، كأنه يهذي، لم يكن من حاجة لجهاز تسجيل خوفا من تفلت الذاكرة، أو الزهايمر الذي بدأ يشاكسني؛ فقد كان الأمر في غرابته فريدا ليظل قويا في مخيلتي، بل أقوى مما تصورت!

 

ربما كان من تلك الفئة، التي تثير في الاشمئزاز، وأبالغ في تحديها، وتحدي أدواتها غير الإنسانية، في ارتكاب جرائم جمع الأموال وجرائم الجنس، حتى وهو زوج لامرأتين، أولهما ثابتة، والثانية متغيرة كما قطع الأثاث، يشتريها كل عام، أو كل بضع شهور، بعد أن تكون أخرى هيجت ذكورته، التي يستطيع دائما استحضارها في حالة نفور دائم، بفضل الأطباء الذي يستدعيهم، والكثير من المنشطات غالية الثمن …. أردت بعض هدنة لأعرف …. فقط لأعرف، ومن ثم أقرر، أو يقرر الوقت، أعود إلى مشاغبتي، أم أكون بينهم محض كلب حراسة، أو إمعة!

 

لم يكن قد مر وقت طويل، على مصاحبتي إياه، حين بادرني:” ما رأيك .. معي دعوة في مدينة ساحلية، أتحب أن تكون معي وترى ؟!

لم أتوان عن الإيجاب:” نعم. دعني أعرفك بشكل جديد؛ إنني أفكر في عمل أسطورة بك “.

بالطبع كانت الكلمات، دعوة له، على عدم التخوف مني، أو معاودة التفكير في أمر مصاحبتي، وإرخاء الحبل إلى أبعد حد ممكن، وأيضا السماح لنفسي لكشف هذا العالم الغامض بالنسبة لريفي مثلي!

 

وصلنا والحفل في أوجه، كانوا يحيطون بعامل نظافة، أطولهم يلقمه قطعا معدنية، وآخر يصب الماء في فيه، وظلوا على هذه الحال، وبين تصفيق المحيطين، حتى أتخم الرجل، وهربت منه أنفاس الحياة، فارتمى أرضا، وسحب كرمة إلى الخارج. الموسيقى تؤدى دورها، في الإمتاع والصخب!

كانت قاعة تشغل فدانين وأكثر، مغطاة بالمرمر، والقيشاني، والعاج الطبيعي، وربما بجلود نسائية وتمتد على حائطها إضاءة فيروزية، وكهرمانية، وبعض المقتنيات التاريخية، التي عرفت فيما بعد، أنها جلبت من هنا وهناك، من قصور القدماء، وتوابيت الفراعنة!

المدعوون يترنحون على مقاعدهم الوثيرة، ولا تكاد ترى طاولة إلا وبها سيدة كملكة متوجة!

كانت وصلة غناء ورقص، لفتيات ما نالت منهن حكايات ألف ليلة وليلة، ولا كانت في جمالهن نساء، القاعة غارقة في إضاءة نوعية، لم أر لها مثيلا …. إلى حد أنى قلت: هل نحن في الجنة الآن؟ “.

حدقني بنظرة، همس، وهو يبتعد عني: ” لا تبعد .. تمتع فقط “.

 

حين راحت كل فتاة ترفع عنها خفيف ما تلبس، كانت القاعة تنغمس في البحث عن الأماكن الحساسة، فيمن تجلسن حول الطاولات.

كانت رأسي تحتشد بآلاف الأسئلة، وآلاف المرارات، وأنا أحرك رأسي كأني أصبت بخبل أو جنون، باحثا عمن يوقف هذا القتل، الذي رأيته صغيرا، حين شدتني فحولة المراهقة إلى مخزن تحت الأرض، حيث تجمع الشباب، وكان فيديو …. وكانت متعة الرؤية في ذاك الوقت!

شاشات العرض تتناثر في أرجاء المكان، وخيوط قزحية ترتمي على الوجوه، وتفرشها بالخيالات والظلال …. أشعر أن ما يميز المكان العيون ، كله عيون مفتوحة ، عيون لوحش خرافي ، ما طالعته العصور على اختلاف تنوعها وولاداتها!

لم أجد رأسا فيمن يجلسون، ولا قاعدا، كل تهالك، كل تعرى، حتى أني ما عدت متيقنا، أن هذا المكان ينتمي إلى بلد أعرف، وهنا لم أستطع الاستمرار في إمساكي، قبضت على جسد زجاجة، وفي كأس صببت نقطتين، مع ماء مثلج، شربت. كان أمر معدتي يشغلني، كنت ما زلت أعي من أنا إلى هذه اللحظة، التي بانت فيها الأثداء، كأني ما رأيت، ولا عاشرت امرأة، ولا حتى قرأت شيئا عن أي شيء. لم تسعفني الكأس …. كأن نارا من الحقد استعمرت كل كياني، الدخان هنا له طعمة، وبهاء، ليس كدخان سجائرنا الذي هرأ معدتي، وفتك بصدري. النساء تتعرى، الأرض تعوم في سحابة ناعمة، شفافة، طرية، ترى فيها كل ما يدور، كأنه عالم آخر، لمكان تحت الأرض، فتنالك الدهشة، وتقتلك المفاجأة!

وأنا أبحث عمن يوقفهن، الصخب يعلو …. يعلو، يطغى على كل شيء، والموسيقى تتهادى في نعومة قطرات ندى مذابة بنسائم ليست من هذا العالم بأية حال!

تظهر امرأتان، فارعتا الطول، قويتا البدن، تتبختران، وتأخذان بساقيي إحدى الفتيات الراقصات العاريات، وتقلبانها، وتفسحان ما بين فخذيها، وتقومان بإفراغ زجاجات الويسكي واحدة بعد أخرى، والصخب يعلو بشكل فوضوي، ورعونة مالها حدود، ولم تتركنها، حتى انبثقت من بين الفخذين نافورة بين تهليل، وشرب بالكف، وضحكات ماجنة.

رجال يلبسون أقنعة، وبطريقة عجيبة، وبعد وقت يسير تكتشف أنهم نساء، ما رأتهم الأرض من قبل، ولا اكتشفهم أحد

حين يتخلين عن كل ما يعلو جلودهن البضة!

تخلت عني حكمتي، جرعت من الزجاجة، جرعة واحدة، فصهلت رأسي، الصور تطاردني، صور الفقر، والعراة، والعالم هناك خلف هذا القصر المنيف، ومدينة شائهه، تموت في برك الموت، والمرض …. يالرأسي وجنوني!

علا الصخب، علت المخالب، و امتلأت القاعة بأكداس من الدولارات، تتحرك كسحاب، و تتهادى كريش مهيض، فما عدت أرى ناسا، زجاجات ..  وأوراق …. و أجساد تخلت عن أثدائها .. و خصرها …. و بض لحومها … لوحة ما استطاعها بيكاسو أو أي من المغامرين!

هنا كنت فقدت القدرة تماما، على التماسك، صرخت:” يا أولاد الكلب …. يا أولاد الأفاعي .. مجرمين …. سفلة “.

و أخرجت دون وعي مني علبة ثقاب ، و أشعلت نارا في ستارة قريبة مني ، أفرغت عليها زجاجة الويسكي ، ثم علا صخبي ، و أنا أتهالك ، و أقعي هنا وهناك ، و أركل أي شيء يصادفني ، حتى زجاجات الويسكي ، كنت في أحضان واحدة منهن ، فألقت بي فزعة ، فسارعت إلى الأجمل ، أحتضنها بقوة ، فأشم رائحة مخدر نفاذة ، و هي تتطوح بين ذراعي ، مستسلمة حينا ، متمردة كفرس حرون تارة أخرى ، ثم في رعونة أجذبها ، و أحاول إبعادها عن الأنظار ، و أنا أصرخ فيها ، و لم أتركها حتى حملني رجلان ، وأتجها بي إلى الخارج ، و كبيرهما على رأسيهما ، كل ما رأيته وجها ضخما ، علته ندوب ، أظنني رأيته من قبل ، أكان أحد الوجوه المهمة في جهاز الأمن ، أم من عتاة المجرمين ؟!

 

بعد يومين أو يزيد أفقت، أدركت أني بالمشفى، أعالج من كدمات و حروق، إلى جانب نزف من معدتي نتيجة الشرب، و الكم الهائل من الطحن، و الذي نلته على أيدي رجال المكان الميامين!

قالوا .. أو قالت تلك التي تدعى زوجة:” سال عنك سيادة المليونير، لولاه لمت هناك “.

اغتصبت بسمة:” و هل أنا حي .. أأنت امرأة .. أنت امرأة ؟!”.

 

حين عادني مرة أخرى، أومأ برأسه، ابتسمت و هززت رأسي بالموافقة، فرفع إصبعه، خلص رزمة من أوراق بنكنوت، ألقاها كما نلقي بشيء خرق، انصرف، وهو يردد:” نمت كثيرا .. يكفى هذا “.

رغم ما ألم بي، وما تعرضت له، قررت وسط ذهول من يطلقون عليها امرأة، أن أكمل ما بدأت، وألا أخرج من جلدهم حتى أقشره تماما، و ربما أشعلت في أبدانهم جحيما على طريقتي!

خطفت نظرة منها، كانت في حالة يرثى لها، اختطفتها، أسكنتها صدري، ودموعي تجري دون توقف:” سوف نعيش .. نعيش .. كوني أكيدة من ذلك “.

عن Xalid Derik

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

x

‎قد يُعجبك أيضاً

الكتابُ … / بقلم: أحمد بريري

  الكتابُ خيْرُ صحْبي فيهِ تلقَى المعْلوماتِ منْ علومٍ وقرِيضٍ وتاريخِ الموجوداتِ ...

أحلم بعيون ذكية / بقلم: سامح أدور سعدالله

أحلم بعيون ذكية أتغمض عيناي الغبية  ذكائي؟ تلك هي المعادلة التي تحتاج ...

قصيدة”سكارى بالكرة” للشاعر مصطفى معروفي/ بقلم: عبد الرحمن منصور

1ـ القصيدة: سكارى بالكرة شعر:مصطفى معروفي نظـلُّ بهـا علـى وهْــمٍ سـكـارى***و قد ...

الفصام / بقلم: عــبــدالناصر  عــلــيوي الــعــبيدي

  ———- الــصدقُ فــي الإنــسانِ خيرُ فضيلةٍ فــــعــلامَ تــكــذبُ أيــهــا الــكــذابُ – ...

أشياؤها الخمس / بقلم: فراس حج محمد

  [محاولة رثاءِ امرأةٍ ضاعت في جنون الحرب]   أشياؤها الخمسُ التي ...

الأخلاق في رواية عشيق السيدة تشاترلي للكاتب دي إتش لورانس / بقلم:محمد عبد الكريم يوسف

  أثارت رواية دي إتش لورانس “عشيق السيدة تشاتيرلي” الجدل والنقاش منذ ...

السياسة في أنتوني وكليوباترا / بقلم: محمد عبد الكريم يوسف

    في مسرحية ويليام شكسبير “أنتوني وكليوباترا”، تلعب السياسة دورا مركزيا ...

نزل المطر/ بقلم: آمنة بريري

نزل المطر   فاصطبغ الكون بالصفاء والسموّ   وسرت نسمات شذيّة تلامس ...

واحة الفكر Mêrga raman