في دنيا البلاغة والغموض
بقلم: محمد عبد الكريم يوسف
…………..
تتميز اللغة العربية بأنها لغة واسعة المعنى دقيقة الألفاظ، فمجرد حركة من حركات الإعراب مثل الفتحة أو الشدة قد تغير المعنى تمامًا . وتكثر البلاغة والغموض في الخطابات الدبلوماسية و السياسية والإدارية وفي مجالس الحكم والتحكيم والقانون ليراد بها انفاذ شيء لا ينفذ أو ايهام الأخرين بما لا يقصد. وصارت البلاغة علما وفنا وصارت تُدرس كجزء من علوم فقه اللغة . هناك دائما فرق بين الخطاب المباشر والخطاب غير المباشر وخير دليل على استخدام البلاغة والغموض هو ما حدث في استراتيجيات التخاطب اللغوية في محادثات السلام بين مصر والكيان الإسرائيلي حيث كانت الخارجية الأمريكية تستخدم أفضل ما تمتلك من تقنيات في التراكيب اللغوية وفنون الاحتيال في اللغويات مع الجانب المصري والكيان الإسرائيلي بهدف تقريب وجهات النظر حول المسائل الخلافية بين الجانبين . ( هناك أكثر من بحث علمي في جامعة جورج تاون عن استراتيجيات التخاطب اللغوية في اتفاقيات كامب ديفيد) .
لقد كان العالم اللغوي الجرجاني خير من تطرق إلى أسرار البلاغة في لغتنا الغربية . فطن الجرجاني إلى أن الخطاب الجيد لا بد أن يتشح بقدر من الغموض ، هذا الغموض يزول مع القراءة الواعية والفكر المتأمل المستنير ، وهذا ما دعا إليه كثير من النقاد في زمننا الحديث. تطرق الجرجاني في حديثه إلى التفرقة بين الغموض المحمود والغموض غير المحمود الذي يكد الذهن ويرهق الفكر دون ثمرة مرجوة وهو في كل ذلك يسوق الأمثلة التي توضح رؤيته وتؤيد وجهة نظره. فالغموض المحمود لدى الجرجاني هو الذي ينجلي لك بعد أن يحوجك إلى طلبه بالفكرة وتحريك الخاطر له والهمة في طلبه ويحترز الجرجاني من أن هذا الغموض لا يبلغ درجة الكد وإرهاق الفكر . والأدب العربي حافل بمسائل الغموض والتلميح والبلاغة التي تتعب بفهمها حتى العارف بشؤون اللغة وفنونها . ويعلل الجرجاني سر جمال هذا الغموض بأن المتعة الحقيقية واللذة العميقة يستشعرها الإنسان بعد المعاناة، والفكر، وبذل الجهد لفهم المجهول، ومعرفة بواطن الأمور فمن “المركوز في الطبع أن الشيء إذا نيل بعد الطلب له أو الاشتياق إليه ومعاناة الحنين نحوه كان نيلُه أحلى وبالمزية أولى فكان موقعه من النفس أجلّ وألطف وكانت به أضن وأشغف.
وحتى ندرك سر البلاغة والغموض في استراتيجيات التخاطب اللغوية لنقرأ الحكاية التالية التي جرت مع هشام القرضي في يوم من الأيام:
يُحكى عن هشام القرضي أنه كان في مجلس أحد الأُمراء، فابتليَ برجلٍ متطفل يُدعى لُكاعاً سأله علانية عن عمره ، إذ قال له: كم تعد؟
تجاهل هشام معنى السؤال وأجاب: إني أعد من واحد إلى ألف و أكثر.
قال الرجل: لم أرد هذا وإنما كم تعد من سن؟
قال هشام: اثنين وثلاثين سناً نصفها من أعلى و نصفها من أسفل.
قال الرجل: ما أردت ذلك، ولكن كم لك من السنين؟
قال هشام: والله ما لي منها شيء وإنما السنون كلها لله.
قال الرجل متأففا : ما رأيتك اليوم، يا هذا ما سنك؟
قال: إنه عظم. فازداد الرجل ضيقًا .
وقال: ابن كم أنت؟
قال هشام: أنا ابن اثنين، أب وأم.
فقال الرجل: يا هذا !! كم أتى عليك من السنين؟
قال: والله ما أتى علي منها شيء ولو أتى علي منها شيء لقتلني.
فسقط في يد الرجل، وعلم أن هشام يفهم السؤال ولكنه يتجاهله.
فقال الرجل: إذن كيف أقول !!
قال له هشام: قل كم مضى من عمرك !
فتنهد الرجل سعيداً إذ آن له أن يعرف الإجابة عن سؤاله.
وقال: كم مضى من عمرك؟
أجابه هشام: و فيم سؤالك عن هذا يا لُكاع ؟
فخجل الرجل
واستغرق الناس في الضحك.
وتنتشر التعابير الغامضة في اللغة كثيرا وتُدرّس في فقه اللغة والسياسة والدبلوماسية والمحظوظ هو من يلتقي بها في حياته ويتقنها بصبر وتأن دون تأفف.
