الرئيسية / قصة / ليلة هلع عند ناهد/ بقلم:عبد القهار الحجاري

ليلة هلع عند ناهد/ بقلم:عبد القهار الحجاري

ليلة هلع عند ناهد

بقلم:عبد القهار الحجاري

ـــــــــــــــــــــــ

لم أدر ماذا حدث بعد ذلك .. أما الآن فيبدو أنني في حالة سرد، فأنا إذن بخير، أو هكذا يخيل إلي على الأقل، لكن كيف دخلت إلى ذلك المكان المريب؟ ما الذي ورطني تلك الورطة؟ تبا لغبائي! قد كنت بخير بالرغم من تعبي الشديد، أردت أن آكل شيئا فقط، والقطار قد لفظني للتو مع بضعة مسافرين خيم عليهم الوجوم والبؤس طوال تلك الرحلة المديدة الموحشة في جوف الليل الحالك والأنفاق المظلمة كأنهم مأخوذون إلى معتقل رهيب، وسرعان ما تفرقوا واختفوا لأجد نفسي وحيدا في شوارع خالية إلا من القطط والكلاب الضالة.

لو كنت فكرت قليلا ما كنت دخلت ولا تورطت هذه الورطة .. مدخل المحل لا يبعث على الارتياح، بابه زجاجي مزدوج، وهو المحل الوحيد المفتوح في هذا الوقت المتأخر من الليل، دقات قلبي تتسارع، ما الذي أتى بي إلى هذه المدينة الموبوءة؟ قرأت اليافطة الزجاجية أعلى المدخل: “مقهى مطعم بار ناهد” كانت الآن مكتوبة بحروف من مصابيح صغيرة في شكل نجيمات زجاجية ملونة، بعضها لا يضيء، ونورها غير منتظم، صورة باهتة لرجل خدمة ذي كرش كبيرة مكورة رسم في جانب من اليافطة، يرتدي زي الطباخ ويحمل صينية بها شيء ربما يصلح للأكل، دقات قلبي تسارعت أكثر .. في لحظة .. أحسست كأن قوة ما تجذبني إلى الداخل، “اللعنة ! لماذا نفتقد أحيانا إلى الإرادة !؟ لماذا لم أنصرف؟ ” تساءلت في حيرة، صخب بالداخل .. موسيقى روك، دخان سجائر، قعقعة صحون وزجاجات، ثرثرة نساء ورجال وقهقهات .. لكن أين كل هذا !؟ تسمرت في مكاني مشدوها وسط أضواء ملونة خافتة؛ ليس بالمحل أحد، لا أحد على الإطلاق! بينما حركتهم وأصواتهم هنا، أين رواد المحل !؟ وكيف يختفون هكذا وحسهم يطوف بي، الكراسي والأرائك فارغة، ذات لون زيتي داكن مبرقعة بجمر أعقاب السجائر، رائحة غريبة تخنق الأنفاس، ليس ثمة جنس كائن لا في الصالة ولا خلف المنضدة، وهذه الجلبة التي حولي ما مصدرها؟ رفوف خزانة مفتوحة مزدحمة بزجاجات شراب مختلف، زجاجات غريبة الشكل، كأنها مصنوعة يدويا، وصانعها لا يتقن حرفته أو يتعمد بالأحرى صنع العجيب منها، كلها اعوجاج وانتفاخ وعدم تناظر وغياب تناسق .. في أعلى الخزانة خلف المنضدة علق رأس وعل بقرون متشابكة، ملامحه متجهمة لكن يخيل إلى أنها نابضة بالحياة، شعوره ربما غاضب أو حاقد أو حزين لا أدري.. بقع حمراء داكنة حوله وسيل دم عمودي من رقبته على الجدار كأنه ذبح للتو..

جلست قريبا من الباب في توجس، ثم فكرت في الانسحاب، عندها تعالت ضحكات كثيرة وسط موسيقى الروك والدخان المتصاعد من هنا وهناك، ارتطم الباب فجأة فقفزت .. ضحك هستيري يغمر المحل .. قعقعة صحون وأقداح وزجاجات .. تحركت متوفزا للهرب، لكن صوتا أوقفني، خلته صادرا عن بوق حاكي خلف المنضدة تبين لي الآن أن الموسيقى الصاخبة صادرة عنه ..رأيت على قسمات وجه الوعل ضحكا وسخرية ونظرة شماتة.. شعر رأسي تشوك، الصوت قادم كالصدى من الأعماق جهيرا أجش أوقف حركتي وجمد الدم في عروقي:

– تم إغلاق الباب! قد فوت على نفسك فرصة الانصراف! ماذا تريد !؟

لم يكن الصوت من الرأس المعلقة ولا من الفونوغراف وليس صوت رجل، بل هو لامرأة هناك .. أردت الآن فقط أن أرى قدميها، لكنها كانت تقف خلف المنضدة، ولأمر ما ربما، تتحاشى أن ألمح رجليها، تحركت نحو الثلاجة، بدا لي جسدها كله إلا قدميها حجبتهما أريكة، أو هي من تتعمد إخفاءهما خلف الأشياء، فكرت أنها ربما بلا ملامح، أو تتخفى خلف خصلات شعرها الكثيف المنسدل على وجهها وكتفيها، أو ربما هناك ما يمنعني من رؤيتها بدقة؛ ربما الضوء الخافت للمصابيح المتلونة ودخان السجائر الذي لا تتوقف سحبه، لم يثنني الهلع من ملاحظة جمال هذه المرأة والافتتان به .. أنيقة، ترتدي تنورة قصيرة فوق الركبتين، تكشف عن آيات حسن ورشاقة، تحركت الآن كثيرا بين الطاولات الفارغة، كأنها تضع صحونا وزجاجات أو تجمعها، وخصرها وصدرها؟ يا لخصرها الضامر !! ويا لصدرها الفارع النافر !! لكنني نسيت عدة مرات أن أسترق النظر إلى قدميها، إذ شغلني أيضا التفكير في اسم “ناهد” الذي في اليافطة وهل هو اسمها، أردت أسألها لكنني توجست، وربما ردفها في التنورة تحت قميص خفيف يكشف قليلا أسفل ظهرها أيضا شغلني حين استدارت غير ما مرة، بقدر ما تغويني هذه الفاتنة المهيبة يتملكني الهلع أكثر فأكثر، أخذت تلك المرأة سيجارا كبيرا، أشعلته بولاعة فيول عتيقة، وطفقت تدخن وتنفث الدخان في شكل دوائر في الهواء الملوث، وسط الروك الصاخب المنبعث من الفونوغراف المجنون وبوقه يهتز كأنه يدندن .. ضجيج وضحك وغنج نساء ورجال يرعبني ألا أرى أحدا منهم، لا أرى سوى هذه الفاتنة التي بلا ملامح، “هل يقهر الجمال الخوف؟ ” تساءلت وأنا ألاحظ بشيء من الرهبة صدرها البارز، شردت قليلا في نهديها المتوفزين من فتحة قميصها وهي تنحني على الطاولات، ونسيت مرة أخرى أن أتحقق من ملامحها.

طلبت حساء وسمكا كي أعجزها فتأذن لي بالانصراف، لأنني

خمنت من الثلاجة الزجاجية قبالتي – وقد بدت شبه فارغة – أن السمك غير متوفر الآن، صمت رهيب أطبق على المحل بغتة، رائحة عفونة، قط أبيض نط من خلف الثلاجة، يتقدم نحوي بإصرار مخيف محملقا في عيني دون أن يموء ببنت شفة، عادت دقات قلبي

تتسارع من جديد، قط أبيض بشارب أسود وعينين حمراوين يقفز نحوي، تحركت لا إراديا لاتقاء هذا العدوان، صعقتني قشعريرة هلع باردة، تتعالى القهقهات من جديد، وتصخب موسيقى الروك من جديد من بوق الحاكي المهتز لذي يشبه جوف كائن خرافي، وجه الوعل كاد يسقط من الحائط من فرط ضحكه” اللعنة! ما هذا؟ “همست في سري إذ ذعرت فارتعش جسدي، لكن القط اكتفى باعتلاء طاولتي، حملق في مليا، استرخى ونام على الطاولة مثل أعرابي كسول.

غابت الفاتنة التي بلا ملامح، غابت طويلا .. فتحت فمي في حذر وتثاءبت، فتح القط عينا واحدة حمراء صوبها نحوي كبندقية غاشمة، اعتذرت في سري، تناهى إلي صوت أنثوي ناعم، من خلف الثلاجة، كانت هي نفسها صاحبة التنورة القصيرة، لم أتبين ما قالت، فلزمت الصمت، جاءت إلي تحمل صينية عليها زلافة بها اعوجاج كتلك الزجاجات الغريبة، وصحن به قطع سوداء لشيء ربما يكون سمكا، ارتحت لصوتها الذي لم يعد أجش، إذ صار ناعما فاشتهيتها وأنا مرعوب، لم يتحرك القط، وحين انحنت قليلا لوضع الصينية على طاولتي التي يحتلها هذا الكائن الغريب، استرقت نظرة أخرى إلى نهديها البارزين، صعقني تيار خوف حارق وقشعريرة رهبة باردة، كم أحب هذا حتى وأنا في حضرة الخطر الداهم ولا أعرف ماذا سيكون مصيري بعد قليل، في هذا المكان المريب.

جلست هناك خلف المنضدة ترقبني بلا ملامح وبغير إحساس، تدخن سيجارها من جديد، “تبا! لقد نسيت مرة أخرى أن أنظر إلى قدميها”، تمطى القط، أخذ قطعة من ذلك الشيء الأسود، وشرع يأكل، صاحت بي الحسناء:

– كل! هيا كل! ما بك !؟

جاء صوتها خشنا عميقا من جديد، قلت مبعثرا ممزقا إنني سآكل حالا، كنت في حاجة إلى استعمال المرحاض، إذ أحسست بمغص في بطني حتى قبل أن أمد يدي إلى الصينية، بدا لي أنني اصطدمت بأجساد مزدحمة راقصة وسط موسيقى فالز مرحة هادئة، ولفحت وجهي أنفاس زكية وأخرى نتنة، وبدا الحاكي وديعا مرحا .. خمنت أن دورة المياه غارقة في العفونة، لكنني وجدتها خالية ونظيفة، أثارني قرب المرآة عبق روائح مختلطة لعطور فاخرة، نظرت إلى وجهي فذعرت؛ ” يا للهول أنا أيضا بلا ملامح مثلها !! ” صحت في سري، لمست وجهي لأتأكد، ليس ثمة ما يقلق، لكن في المرآة لا أرى أية قسمات.

غابت تلك المرأة ثانية وبدأت المصابيح الخافتة تنطفئ الواحد تلو الآخر حتى عم الظلام المحل، وأطبق الصمت عليه، تلاشى دخان السجائر، وسكن كل شيء وهدأ، لكن هلعي ازداد، ودقات قلبي اضطربت، أحسست بالخطر أكثر، لم أعد أرى غير هذا القط الذي لا يموء ببنت شفة، قط أبيض بعينين حمراوين وشارب أسود واضح للعيان وسط حلكة الظلام! أحسست بدوخة، بدأت أغيب .. ولم أدر ماذا حدث بعد ذلك.

 

بقلم:عبد القهار الحجاري/ المغرب 

عن Xalid Derik

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

x

‎قد يُعجبك أيضاً

الكتابُ … / بقلم: أحمد بريري

  الكتابُ خيْرُ صحْبي فيهِ تلقَى المعْلوماتِ منْ علومٍ وقرِيضٍ وتاريخِ الموجوداتِ ...

أحلم بعيون ذكية / بقلم: سامح أدور سعدالله

أحلم بعيون ذكية أتغمض عيناي الغبية  ذكائي؟ تلك هي المعادلة التي تحتاج ...

قصيدة”سكارى بالكرة” للشاعر مصطفى معروفي/ بقلم: عبد الرحمن منصور

1ـ القصيدة: سكارى بالكرة شعر:مصطفى معروفي نظـلُّ بهـا علـى وهْــمٍ سـكـارى***و قد ...

الفصام / بقلم: عــبــدالناصر  عــلــيوي الــعــبيدي

  ———- الــصدقُ فــي الإنــسانِ خيرُ فضيلةٍ فــــعــلامَ تــكــذبُ أيــهــا الــكــذابُ – ...

أشياؤها الخمس / بقلم: فراس حج محمد

  [محاولة رثاءِ امرأةٍ ضاعت في جنون الحرب]   أشياؤها الخمسُ التي ...

الأخلاق في رواية عشيق السيدة تشاترلي للكاتب دي إتش لورانس / بقلم:محمد عبد الكريم يوسف

  أثارت رواية دي إتش لورانس “عشيق السيدة تشاتيرلي” الجدل والنقاش منذ ...

السياسة في أنتوني وكليوباترا / بقلم: محمد عبد الكريم يوسف

    في مسرحية ويليام شكسبير “أنتوني وكليوباترا”، تلعب السياسة دورا مركزيا ...

نزل المطر/ بقلم: آمنة بريري

نزل المطر   فاصطبغ الكون بالصفاء والسموّ   وسرت نسمات شذيّة تلامس ...

واحة الفكر Mêrga raman