الرئيسية / إبداعات / من أي طينة هو الإنسان؟/جوتيار تمر

من أي طينة هو الإنسان؟/جوتيار تمر

 

من أي طينة هو الإنسان؟

 

إن أي خوض في المعيات التي تلازم حركية الوجود البشري على الخراب المسمى بالمعمورة ” الارض” سيولد كماً هائلاً من التناقضات التي تتعدى حدود الاستكشافات العلمية والدراسات التخصصية، بل إنها تعقد الأمور الماورائيات نفسها لاسيما تلك التي تعتمد الطوباوية أو الميتافيزيقية في توصيفاتها للحالات البشرية بصورة وأخرى، فالبشر اللا انساني وجد بتصور سبقي، وهذا التصور السبقي حسب الميثولوجيا الطوباوية ليس قابل للنقض، ولكونه ليس قابل للنقض فأنه حتمي والحتمية تستوجب وجود فعل مادي حركي لاثبات ذلك، ولأن البشر هم الأداة الأكثر توظيفاً للحراك الميثولوجي المبني على المخيلة قديما والممنهج فيما بعد، فإن أفعاله وآثارها هي التي توضع تحت المجهر لإجراء الدراسات ووضع المعايير واثبات وجهات النظر وفرض النظريات أو طرح الأفكار وفتح مساحات النقاش والجدل.

وليس بمخفي على أحد أن أنسنة الإنسان وفق أي “معايير تبقى ناقصة غير متكاملة”، وذلك لكون الإنسان نفسه عنصر رغباتي شهواتي تفكيري عقلي عاطفي انفعالي غير ثابت، بل متقلب بدرجة لا يمكن وصف معالم ورسم حدود لفئات تعميمية، وبذلك تتحول الدراسات إلى وجهات نظر حتى وإن بدت علمية متقنة وفق معايير دقيقة وصارمة، لكنها في الاخير تبقى ضمن هياكل اجتماعية حتى أن بدت منوعة تبقى رهينة الميول والدوافع الذاتية للأشخاص الخاضعين للتجربة التقييمية، وهذا ما يجعلنا نوجه السؤال وبدون تردد ما هي طينة الانسان. إذا سلمنا ميثولوجياً إنه مخلوق من الطين…؟

إن أي وقفة على الفعل البشري الإنساني منذ بدء الخليقة الى يومنا هذا، سنجد بأن أكثر ما يوصف به الإنسان هو اللاإنسانية العدوانية العنف القتل العمل على إزاحة وإقصاء الآخر سواء باسم رغبته الشخصية وميوله الذاتية ودوافعه النفسية وتراكماته العقلية العقدية، أو من خلال رصد الموروثات الشعبية والدينية، وسنجد في الوقت نفسه أن أي ظاهرة أو حركة إصلاحية وجدت وظهرت في الوجود الأرضي لديها غرض واحد وهو كي تعيد الإنسان إلى الطريق القويم والصحيح، وهذا بالضبط ما يثير التساؤل السابق الذي أثرناه، وبالتالي كيف يمكن وقف هذا المد اللاإنساني من الإنسان الذي يفترض إنه من أوجد المفهوم الإنساني بفكره تبعاً للرؤية السبقية التي أوجدته كإنسان، وليس خضوعاً للأسبقية الفرضية الحتمية التي أوجدته كمخلوق خاضع لسلسلة مفاهيم معقدة، أو تصورات متشابكة كالتي وجدت عن المخلوق الأول حيث وصف مسبقاً، اي بينما كان ما يزال مجرد فكرة فوقية بأنه سيسفك الدماء، ويفسد في الأرض.

لابد من الرجوع الى جذور ومكونات تلك الطينة التي وجدت الإنسان منها ودراستها لمعرفة المترتبات السبقية والبعدية التي أوجدت الإنسان البشري بهذا الشكل اللامنطقي واللاإنساني المهيمن عليه النزعة الاغترابية الذاتية فتحول إلى وحش كاسر منذ الوهلة الأولى تبعاً لشهوته حتى أصبح يؤثث عوالمه الذاتية بعيداً عن الجمعية التلاحمية، وتأكيداً على الرؤية السبقية التي ظهرت عنه تزامناً مع قرار خلقه، فلعل الدراسة تلك توضح بعض المعالم الغامضة التي لم يزل الانسان عاجزاً عن خرق جغرافيتها، لاسيما فيما يتعلق بقدرته الإقصائية وإمكانياته الكبيرة في فعل أي شيء” القتل” من أجل الإبقاء على نفسه ولو على حساب كل من حوله.

فوفق دراسة جديدة أعدها متخصصون نفسيون في جامعة “موناش بمالبرن” الأسترالية، أنه ليس من السهل الإقدام على القتل أو اتخاذ هذا القرار القاسي، فحتى القتلة المتسللين ينبغي عليهم أن يتغلبوا على الكثير من الضغوطات العصبية القوية، من أجل ارتكاب هذه الجرائم، فخلال اتخاذ قرار القتل، يميل العقل البشري إلى الشفقة والشعور بالذنب، بالإضافة إلى نوع من ألم التعاطف، يجعل الشخص يشعر بنوع من الأذى ودرجة من المعاناة تقترب من نفس درجة معاناة الضحية نفسها، وفق ما ذكرت مجلة “تايم” الأمريكية “، وهكذا حتى الدراسات نفسها عاجزة عن تحديد النمطية التي تتبعها العقليات الإقصائية، بالعكس تماماً فان هكذا دراسة تؤيد وتؤكد المقولة التناقضية السبقية التي أوردناها وتجعلنا نعيدها بصيغة أخرى، حول ماهية الميل البشري للشفقة أثناء إزاحة الآخر، فكأننا نعيش وهماً سبقياً يجعلنا نعيش التعاطف ونحن نقتل الآخر ونزيحه عن الوجود على الرغم من سماعنا لصراخه ومحاولاته المتكررة للنجاة واستعطافه لنا بالرحمة وإلى غير ذلك من الأمور التي ترافق هذه العملية اللاإنسانية من الإنسان.. إن التناقض لا يقتصر على المقولات الميثولوجية المنبثقة من تصور ديني فقط بل تنبثق من الإجمالية التي صنفت الإنسان إنساناً وهو لا يحمل من معاني الكلمة إلا الهيكل الخارجي، فكيف يمكنه أن يتعدى مكوناته السبقية الخلقية كإنسان سيحقق التصور السبقي عنه بأنه سيسفك الدماء، إنها المعضلة الأكثر تعقيداً من حيث التداخل والتشابك بين المفاهيم والأوامر والحتمية والجبرية وحتى التخيير والتسيير الممنهج دينياً. بالطبع كل هذا بعيداً عن الرؤية القائلة بأن تلك السمات الإزاحية الإقصائية هي اكتسابية لاسيما من البيئات التي تتأثر بجملة أمور خارجة عن هذا النطاق الحتمي، لأننا وقتها سنقول بأن اللاحتمية نفسها هنا تناقض وجوديتها لكونها وفق السبق البيئوي وجدت تحت ظرفية لم تكن للبيئة وقتها أي تأثيرات عقدية أو عقلية أو حتى ظروف تعقيديه حياتية، بل أتت وفق منهجية الحتمية القائلة بالسفك السبقي لا أكثر، لكون تلك الرؤية كانت دقيقة كدراسة ممنهجة بدون معايير وقتية أو تحديدات وسائلية، فكان البدء بالإقصاء استكمالاً لتلك المقولات أو خضوعاً لتلك للحتمية.. ولم يكن للبيئة هنا أي مؤثرات وتأثيرات، أنما فقط كان الأمر متعلقاً بالرغبة والشهوة والبدء بإحداث أنموذج بشري لاإنساني قائم على الوحدوية المتسلطة وإخضاع ما ليس هو لكينونته. متنافياً بالمقولة أن البيئة أو أن هناك من يدفع الإنسان إلى الجريمة خارج الأطر الذاتية الساعية لتحقيق الحتمية السفكية السبقية أولاً ومن ثم بعيداً عن الرغبة والشهوة التي أظهرت صورته الحقيقية منذ الوهلة الأولى،  وحين نغوص في التاريخ الإنساني على الخراب الأرضي سندرك تماماً ماهية الطينة التي خلق الإنسان منها، حتى وأن كنا لن نلامسها مادياً، فهذا التجذر العنفي الإزاحي متغرس فيه فطرياً، وليس هناك من فسر هذه العفوية وهذه الحتمية واقعياً بشكل واضح مثلما فعله الفنان الرائع مايكل انجلو في إحدى أعماله الرسمية حين رسم البراءة في صورة طفل، و ثم صورة لشخص يمثل الإجرام في صورة قبيحة تبرز كيان وهوية وسمات المجرم القاتل، والذي أدهش انجلو نفسه بعد حين هو أن الصورة الأولى التي كانت رمزا للبراءة متمثلة في طفل رضيع هو نفس الشخص الطفل البريء في الصورة الثانية التي تمثل الجريمة والمجرم، فالعملية هنا أتت تزامنية لا أكثر واعتقد أنه ليس إلا تصوير عفوي لتجذر العنف في النفس البشرية الإنسانية منذ الوهلة الأولى ” الفكرة ” لذا كانت الحتمية وقتها مزامنة ومرافقة للهيئة أو الهيكل الذي وجد الإنسان عليه، فأصبحت المسارات التخييرية هي بوجود الإنسان الشهواني الإقصائي مجردة من فعاليتها، إذا لم تكن أصلاً غير مصوغة لتلائم حجم الكارثية التي سبقت الخليقة وتزامنت معها، ورافقتها لوقتنا هذا، وستبقى لأجل غير مسمى.

 

 

 

 

 

جوتيار تمر/ كوردستان

3-2-2017

 

 

عن Xalid Derik

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

x

‎قد يُعجبك أيضاً

القيم الاجتماعية في عشيق الليدي تشاترلي للكاتب دي اتش لورنس/ محمد عبد الكريم يوسف

في رواية دي إتش لورانس المثيرة للجدل، عشيق الليدي تشاترلي، يلعب موضوع ...

آهٍ إن قلت آها / بقلم: عصمت دوسكي

آه إن قلت آها لا أدري كيف أرى مداها ؟ غابت في ...

الكتابُ … / بقلم: أحمد بريري

  الكتابُ خيْرُ صحْبي فيهِ تلقَى المعْلوماتِ منْ علومٍ وقرِيضٍ وتاريخِ الموجوداتِ ...

أحلم بعيون ذكية / بقلم: سامح أدور سعدالله

أحلم بعيون ذكية أتغمض عيناي الغبية  ذكائي؟ تلك هي المعادلة التي تحتاج ...

قصيدة”سكارى بالكرة” للشاعر مصطفى معروفي/ بقلم: عبد الرحمن منصور

1ـ القصيدة: سكارى بالكرة شعر:مصطفى معروفي نظـلُّ بهـا علـى وهْــمٍ سـكـارى***و قد ...

الفصام / بقلم: عــبــدالناصر  عــلــيوي الــعــبيدي

  ———- الــصدقُ فــي الإنــسانِ خيرُ فضيلةٍ فــــعــلامَ تــكــذبُ أيــهــا الــكــذابُ – ...

أشياؤها الخمس / بقلم: فراس حج محمد

  [محاولة رثاءِ امرأةٍ ضاعت في جنون الحرب]   أشياؤها الخمسُ التي ...

الأخلاق في رواية عشيق السيدة تشاترلي للكاتب دي إتش لورانس / بقلم:محمد عبد الكريم يوسف

  أثارت رواية دي إتش لورانس “عشيق السيدة تشاتيرلي” الجدل والنقاش منذ ...

واحة الفكر Mêrga raman