الرئيسية / مقالات / هل نتعلم من التاريخ؟ / بقلم: جوتيار تمر

هل نتعلم من التاريخ؟ / بقلم: جوتيار تمر

هل نتعلم من التاريخ؟

بقلم: جوتيار تمر / كوردستان

6-8-2020

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يقول د. عبد الجبار العبيدي في مقال له منشور على موقع إيلاف تحت عنوان”  هل يدرس التاريخ للعبرة والموعظة أم للتجربة والاستذكار”، ويذكر في سياق حديثه عن الموضوع أن دراسة التاريخ يشمل الماضي والحاضر ولربما تكهنات المستقبل، لكن هذا المقياس يختلف باختلاف الزمان والمكان والناس، فالاختيار يجب أن يكون انتقائياً ومحدداً حتى ينطوي على تجربة معينة للحاضر والمستقبل وما يهم أمور الناس والأوطان معاً، وحول منهجية قراءة التاريخ أو التكهن التاريخي للعبرة والاتعاظ يقول أن منهجية العبرة والاتعاظ لا تصلح إلا في حالات معينة وضيقة جداً حين تتشابه الأحداث والفترات الزمنية، وهذه حالات نادرة الحدوث لأنها لا تتكرر بكل ظروفها أبداً، ومن هنا فإن قراءة التاريخ للعبرة والاتعاظ ضرب من الوهم الذي لا معنى له أبداً، فالمقياس العلمي أو المنهجي التاريخي يخضع للتغيير وليس للثبات.

وفي مقال سابق تحت جدلية العود الأبدي للتاريخ كنت قد نوهت بأن إحالة وقائع الآن إلى الماضي لا يمكن أن تأتي بنتائج مطلقة يمكن تعميمها على مراحل التاريخ الحالية أو اللاحقة، لأن الثوابت أنما تكمن في الحدث وما آل إليه الحدث فهو متوقف على جملة أمور أخرى تكاملية في صناعة الحدث، وبذلك لا نستغرب الآن وفي وقتنا الحاضر أن يتجه الناس إلى دائرة التاريخ للتخفي وراء انتكاساتهم في الحاضر، والتوجس من مستقبلهم الآتي، فمن خلال البحث عن أواصر ترافقية وتلازمية مطابقة لوضعهم الحالي يستجدي الناس بالتاريخ ليكرر المقولة التي تكررت منذ وعي الناس مقولة التاريخ يعيد نفسه، ويستميت الناس في الاستشهاد بالتاريخ ليغطوا جزء كبير من نواقصهم الحالية، وابتعادهم عن السبيل المؤدي لتحقيق أهدافهم سواء الآنية أو المستقبلية وبالتالي فإن اعتماد مقولة العبرة والاتعاظ لا يأتي هنا بدافع التبرير لما يقومون به من أفعال وأعمال وتصرفات وسلوكيات، أو للاتعاظ والعبرة ولا حتى للتجربة والاستذكار، أنما بدوافع أخرى اقوى، كدافع اليأس الوجودي القاتم، والمتمكن من عقل ونفوس الناس بحيث لم يعد بإمكانهم التصرف بالموجود الآني وبما بين أيديهم بعيداً عن الانخراط في الماضي وربطه به، حتى يعطوا لأنفسهم صفة رسمية باعتبارهم ينهلون من تاريخ الأمة التي يلتحفون باسمها في محافلهم الداخلية والخارجية، وبالتالي فانهم يخضعون عقولهم لمنطق دفن بدفن أصحابه، وينأون بأنفسهم عن مواجهة التكهنات المستقبلية التي تضع حاضرهم تحت المجهر، وتفضح مكنونات واقعهم المزدرء بالتمام.

الأمم والجماعات وحتى الشخصيات المستقلة كما يقول د. العبيدي تنأى بنفسها عن تجارب الآخرين، واكثر ما يزعجها أن تسير في أعقاب الآخرين، وهو بذلك يضع حداً للتكهنات السبقية التي تفرضها وقائع الحاضر عبر  إعادتها للماضي، وفي الحقيقة ليست العبرة والاتعاظ إلا غاية لمن فقد وجوده الفعلي وسطوته وكينونته ومصداقيته، ليبرر من خلالها الوسائل التي يسعى لاستخدامها في طريق إعادة إثبات وجوده من جديد حتى وأن خالف بذلك كل التوقعات، وغالبية الواقع ومضامين التجربة الحاضرة، فالساسة من جهة، ورجال الدين من جهة أخرى، هؤلاء أكثر الناس من يلجؤون للتاريخ تحت شعار العبرة والاتعاظ، وفي الحقيقة هما أكثر الناس فقداناً لمصداقيتهم في الحاضر الذي نعيشه، واكثر من لا يتعظون بالتاريخ.

فمع عمق الحدث التاريخي في الوجود الإنساني، فانه كما سبق وان نوهنا يحمل صفتين تلازميتين وهما المكانية والزمنية، وباعتبار أن تلك الصفتين غير ثابتتين فإنها توجب اتباع نهج غير إلزامي في تحديد معالم الحاضر وفق نظرية التقارب والقياس بالماضي، لأنه حتى في التاريخ يتجنب أصحاب الرؤية الدينية مثلاً التعرض للحقائق التي من المفترض أنها تعطي دروساً واعية لصيرورة العمل السياسي من جهة، ولصيرورة الوعظ الديني من جهة أخرى، فمع أن تلك الأحداث والوقائع واضحة  كوضوح الشمس لهم وللناس، إلا انهم يتغاضون عنها، ويبررون فعلتهم بالمس بالمقدسات، ولأن الناس أمام الموجبات الدينية بالذات وحتى السياسية كالقطعان تسير حيث تُساق فإنها لا تكلف نفسها للسؤال عن الماورائيات التي يتطلبها الحدث نفسه، ليس لكونه حدث نادر يتكرر في تاريخه الحالي، أنما لكونه حدث قد يمس بنية عقله وتفكيره وإيمانه بالماضي والحاضر وتكهنه بمستقبله الآتي.

لقد علمنا أصحاب الرأي والفهم والساسة ورجال الدين أن التاريخ مدخل أساسي للفهم والإدراك عبر دوائر العبرة والاتعاظ والتجربة والاستذكار، و في الوقت نفسه وضعوا حدوداً للبحث في مضامين التاريخ نفسه، باعتباره لديهم محصن من التدخلات الخارجية التي قد تشوه معالمه الحصينة والمحصنة من كل نقع أو جرف أو تحريف أو تصحيف، وفي الواقع التاريخ الذي اقرأه علمني أشياء أخرى تماماً، مثل أن لا أتوقف عند حدود معينة، في البحث والتقصي وإبداء الرأي، والبيان والتفسير والتأويل، وذلك ما يجعلني بعين هؤلاء مارداً خارجياً ارتوي من بحر الشراة، حيث كانوا يسمون مناطق سكن أجدادي الكورد  بها سابقاً، وبين أن التمس لآرائي التبرير والصفح، وبين أن أؤدي دوري في صيرورة حركة التاريخ، لابد من قرار شخصي، أتحمل مسؤوليته، انه الواقع ليس الافتراضي الذي فرضه علينا الساسة ورجالات الدين، أنما هو الواقع العياني الذي لم يعد هناك من مفر أما بتقبله بشكله الفوضوي النهائي والرضوخ لمنطقه اللاواعي، أو السير قدماً للبحث عن معقولية الحدث التاريخي وفق مدلولاته الحدثية بين الزمنية والمكانية وتطابقها مع الشعارات العامة التي يطلقونها بين الفينة والأخرى لجذب القطيع وتحريضه.

ففي التاريخ هناك ثوابت من حيث إصرار أهل العلم والتشريع والساسة عليها منها على سبيل المثال لا الحصر، مقولة “لا فرق بين عربي واعجمي ” تلك المقولة الدينية التاريخية التشريعية التي جردت من حيويتها وكينونتها وأسقطت بالتحيز لعنصر على حساب آخر في التاريخ، وهذا ما يتباحثه الكثيرين بين مؤيد للمقولة ورافض، في حين أنها مقولة لم تأتي من الفراغ التاريخي أنما هي تحصيل لوقائع متوالية ضمن الصراع السلطوي الديني منذ بداية التاريخ الإسلامي كمثال على مفهوم التاريخ يعيد نفسه، وان العبرة والاتعاظ هما من ركائز التاريخ، فالسبقية التي فرضتها مقولة ” اللافرق” تقتضي بانها تخرق جدران الزمنكانية، وان ليست حصراً وحكراً على زمنية محددة، ولكنها في مهدها وأدت، وتحولت إلى نزاع، استخدم الساسة ورجالات الدين كل الوسائل لتحقيق غايتهم في تهميش العناصر الأخرى في التاريخ الإسلامي،  لذا نرى بان القياس بمنظور السبقية هنا لا تأتي كونها فرضت من اللاحقين كواقع، أنما أتت كمعلم تاريخي وحدث تاريخي، فان كان العبرة والاتعاظ إلزامية في فهم التاريخ والعمل بموجباته ومترتباته فانه من نافل القول أن تلك الأحداث يجب الغض عنها، وعدم الخوض فيها، لكونها تمس المقدسات التاريخية لاسيما الدينية، وفي الحقيقة أن اكثر ما يؤرق الإنسان الواعي هو تلك المترتبات اللاواعية التي يستنبطها دون ادراك، أو  وعي حقيقي بماهية الحدث نفسه، وإسقاطه عبر سلسلة من التداخلات المرئية الواضحة العنان، ولكن مع ذلك لابد من التأمل والتوقف على مفهوم السبقيات التي نتحدث عنها، فليس كل سبقي مأخوذ به ومتعظ به ولا حتى مستفاد منه كتجربة واستذكار لكون الواقع السياسي بمنظوره الآني الحالي سواء بفوضويته وعشوائيته ولامنطقيته لا يمكن أن يكون ناجماً من قراءة وفهم صحيح للتاريخ، لكونه لأي مس الإنسان في كينونته وعقله فحسب، بل يهدم كل مقدساته العقلية كانت أم الروحية، وحين نرفض مقولة أن الساسة يتعظون بالتاريخ، أنما يحاولون أن يجعلون الأحكام السبقية المنتقاة بدقة ومصلحوية من التاريخ كوسيلة لقيادة القطيع نقولها عن قناعة بان الأحداث التاريخية فتحت أوجه للتأويل والتفسير ضمن حركية التاريخ المقدس المتغاضي عنه، وهؤلاء الساسة ورجالات الدين أنما يستقون منها إحكامهم السبقية ويستدلون بها حين يقعون في مواقف تصعب على عقولهم المتبلدة تفسير  أعمالهم العشوائية والفوضوية المؤدية غلى الخراب وإراقة الدماء، فمثلاً يورد ابن قتيبة الدينوري في كتابه الإمامة والسياسة في الجزء الأول ،الصفحة السادسة والستين دليل تاريخي متأصل في حركية مفهوم السبقية، لكنه مازال مخفياً عن الأنظار، وبعيد عن التداول بحجة التغاضي عن ما بدر من الصحابة، يقول عمار بن ياسر لعائشة حين رأتها تبكي مقتل عثمان بن عفان، “امس كنت تحرضين عليه واليوم تبكينه، وفي السياق ذاته، نحن أمام الحدث السبقي غير الخاضع للتأويل لكونه يمس المقدسات، تقول عائشة لطلحة ، وما لعلي يستولي على رقابنا، لا أدخل المدينة ولعلي فيها سلطان”، لعل الخوض في الأمر ينتهك حرمة الحدث نفسه لكونه واضح المعالم، سواء من سياقه التاريخي أو التأويلي، فالحكم السبقي على الحاضر والتكهن بالمستقبل جاء وفق مدلول حي ومباشر من التاريخ، فعائشة حكمت على علي بن أبي طالب بالفشل منذ لحظة مقتل عثمان بن عفان، وقررت التمرد على السلطة منذ الوهلة الأولى، فهل كان في فعلها ذاك نتائج محددة، التاريخ يقول لنا بأن من نتائج ذلك الفهم والحكم السبقي على الحدث التاريخي “مبايعة علي بن أبي طالب” معركة الجمل ومقتل الآلاف من الناس، اذًا الرؤية السبقية لا تأتي من فراغ فالساسة الآن، ورجال الدين الآن، وكما كانوا في الأمس، يستمدون لغاياتهم الروح من التاريخ ويوظفونه بحسب رؤيتهم للقطيع، وذلك ما يفرض أن الاتعاظ والعبرة من التاريخ غير ثابت على نحو محدد، أنما هو أداة يستخدمها أصحاب الطموح السياسي والديني لتحقيق غاياتهم وغايات الأجندات التي يمثلونها، وإلا فان الحكم على أية تجربة من خلال الاستناد على أن التاريخ الدموي سيعيد نفسه قبل إعطاء الفرصة للتجربة الجديدة بالعمل وفق آلياتها التي تريد أن تثبت نفسها من خلالها، يكاد أن يكون تصحيفاً وخرقاً للمنطق العقلي والتاريخي معاً، ومن هنا لا يمكن الاستناد على وقائع التاريخ بزمنيتها القديمة ومكانيتها القديمة وبيئتها المختلفة وعقليات أهلها المختلفة، وإسقاطها على الحاضر الآني والتكهن بالمستقبل، لأن تلك العقليات أنما كانت تفكر بحدود زمنيتها ومكانيتها، لذلك لا يجوز أن نعيد حكم عائشة مثلاً على السلطة لأنها كانت أم المؤمنين وهي لم تحكم من منطق الحسد أو الكره والبغض، أنما لمصلحة المسلمين آنذاك، ونأتي في عصر آخر ومكان آخر، نعيد رسم معالم السلطة وفق تقاليد ذلك الزمن، وحتى نعيد مفهوم المعارضة وفق تقاليد تلك الحقبة، فالأمر ليس سيان والتاريخ هنا لا يعيد نفسه إلا قسراً فالعقول هي التي تكرر الحدث وفق معطيات لا تخدم الحاضر والمستقبل، ولذلك تسبق الأحكام الأفعال والقرارات، وتؤدي في النهاية إلى المزيد من الفوضى والخراب، وعلى ذلك الأساس فإننا نقول بأن التاريخ ذا طابع حركي مستمر لا يتوقف عند معلم واحد، وسبب واحد، أنما يتعداها ويعانق الأفق حيث اللانهاية، ولا يمكن لمن يحمل فكر ما قبل نصف قرن أن يقيس كل الأحداث على ما كان يتعامل معه أثناء تلك الحقبة، فالمتغيرات التاريخية تستوجب التعامل مع الحاضر والتكهن بالمستقبل والإعداد والتخطيط للآتي وليس إعادة فرض الماضي.

عن Xalid Derik

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

x

‎قد يُعجبك أيضاً

تخفي الهشاشة في زمن مغلق/ بقلم: مصطفى معروفي

شاعر من المغرب ـــــــــ صدِّقوا الطير إن هي مدت مراوحها في دم ...

رحل بيتر هيجز: الرجل الخجول الذي غير فهمنا للكون/بقلم جورجينا رانارد/ترجمة: محمد عبد الكريم يوسف

  اشتهر البروفيسور بيتر هيجز بهذا الشيء الغامض الملقب بـ “جسيم الإله” ...

القيم الاجتماعية في عشيق الليدي تشاترلي للكاتب دي اتش لورنس/ محمد عبد الكريم يوسف

في رواية دي إتش لورانس المثيرة للجدل، عشيق الليدي تشاترلي، يلعب موضوع ...

آهٍ إن قلت آها / بقلم: عصمت دوسكي

آه إن قلت آها لا أدري كيف أرى مداها ؟ غابت في ...

الكتابُ … / بقلم: أحمد بريري

  الكتابُ خيْرُ صحْبي فيهِ تلقَى المعْلوماتِ منْ علومٍ وقرِيضٍ وتاريخِ الموجوداتِ ...

أحلم بعيون ذكية / بقلم: سامح أدور سعدالله

أحلم بعيون ذكية أتغمض عيناي الغبية  ذكائي؟ تلك هي المعادلة التي تحتاج ...

قصيدة”سكارى بالكرة” للشاعر مصطفى معروفي/ بقلم: عبد الرحمن منصور

1ـ القصيدة: سكارى بالكرة شعر:مصطفى معروفي نظـلُّ بهـا علـى وهْــمٍ سـكـارى***و قد ...

الفصام / بقلم: عــبــدالناصر  عــلــيوي الــعــبيدي

  ———- الــصدقُ فــي الإنــسانِ خيرُ فضيلةٍ فــــعــلامَ تــكــذبُ أيــهــا الــكــذابُ – ...

واحة الفكر Mêrga raman