الرئيسية / قصة / يا رب موز/ بقلم: حسين كري بري

يا رب موز/ بقلم: حسين كري بري

يا رب موز/ بقلم: حسين كري بري

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

كالقطبِ الشمالي أرضية الحمام شتاءً، يرتجف من تحت بقايا برده حتى الخشب الجاف، وهو البرد ذاته الذي يمتد برعشاته إلى جسدي الصغير حينما أعبر بقدماي تلك أرضية.

نافذتنا الصغيرة المستلقية في الجهة العليا تشبه ساحة مكتظة بالريح، تتقاذفنا ببردنا في جميع الاتجاهات، أما الباب القماشي الأبيض فلا يمكن وصفه أبداً، فهو الكريم الذي يرحب بالبرد دون الحاجة إلى القرع.

في المشهد: خلعتُ ثيابي، ووضعتها في الدلو الهامشي، ويدايَّ تلتحفان جسدي البارد، أما عيني فتتربصان كجندي غِرّ في الجهة الأمامية بانتظار المبهم القادم.

هل خلعتَ ثيابكَ؟ .

دخل الصوت وتبعته أمي، حاملة الجردل المملوء بالماء الساخن والمغادر للتو من فوق “البابور” الهائج ناراً أسفله، لم تنتظر الإجابة مني، فقد رأت ما أنا عليه، فأسعفتني بالماء الساخن ثم بصابون الغار الذي ثار في عينيّ بركاناً وهو يتبادل والهواء البارد طعنات الزمهرير في جسدي.

ووسط هذا الازدحام تعالت الصيحات والويلات سماء كري بري* وحينما تلاطم الجردل بشيء ما، عرفت بأن أمي أسرعت للخارج، وبدأ صوتي أيضاً يعلو مع الرتل وأنا لا أعلم ما الذي يجري وعيناي تشعلان فيهما النار، لا أحد في المنزل ليسمع صراخي أو لينقذني مما أنا فيه، إلى أن أدركت أنه لا مفر إلا بي، فمددت يدي باحثاً عن قطعة القماش الموجودة في إحدى أركان الحمام ثم أزلت كلّ الرغوة، مع بقاء بعض بقع الصلصال، شعرت بالفخر وأنا أتحسس عملي البطولي.

إلى أين يركضون؟ …

ولما أغلبهم يرجعون ومعهم أكياس كبيرة؟

ماذا!!!!…….كإشارة للتعجب وأنا أنطق اسم “حمو” ماذا يفعل معهم؟ ألا يجب أن يكون في المدرسة، أيعقل أنه وبعد مشاجرتنا خائف أن يذهب إلى المدرسة! كان قاسياً جداً، وهو السبب في توبيخ والدي لي،

هنا أظهر الغضب على وجهي الطفولي البريء ليس كما الآن أبدو مثل عمال المناجم يبدو عليهم التعب والشحم والكثير من الوجع.

صرتُ مثل جهاز كشف الذهب أمشي خلف جارتنا الكبيرة في العمر والتي تعجز عن الركض وهذا طلبي فأنا عاجز أن ألحق الكبار في الركض.

إنه شيء غريب، أول مرة أراه.

ربما لعبة من ألعاب الأطفال، لا يهم سأعرف لاحقاً.

بعض رجال القرية يعودون حاملين الشيء الغريب ويتناولون الحديث بخصوصها ولكن ما الذي حدث ومن أين أتو بها، فجأة يدخل في الحديث أبو محمد: أنها فاكهة ولكنني نسيت اسمها، والحمد لله ها قد أكتشف أحد الأهالي إنها فاكهة، وأخيراً ولكن يا ترى ماذا تكون؟ التحقتُ بالسيدة كي لا يضيع مني الكنز المعرفي. تجمعٌ كبير من الأهالي هناك في مفرق الأوتوستراد، إذاً كما العادة هناك حادث مروري.

سأحكي لكم بشكل مختصر قصة المفرق في قريتنا الذي يقع على جسر حديث تم بناءه على عجوز صالح ندعوه بالشيخ الشبح حيث دُفن هناك من عقود ويقال مازال حياً يخرجُ ليلاُ ـ المصدر: هنا الأهالي ـ.

كان الشيخ الفاضل مدفون هناك قبل وضع الجسر الزفتي فوقه، طريق قامشلو ـ اليعربية، تم تمديد هذا الأوتوستراد لسهولة نقل المواد بكافة أنواعها من المواشي والسيارات والخضار …. بين سوريا والعراق، القبر كان في النهر الجاف ـ نهر الجراح ـ قبل إقامة الجسر، والغريب إن معظم أهالي أكدوا إنهم رأوا الشيخ يخرج ليلاً بلباسه الأبيض ويشع نوراً من وجهه ويحكى أيضاً أنه بعد إقامة الجسر ومرور الشاحنات الكبيرة والحمل الثقيل فوقه الأمر الذي يزعجه وهو نائم فيحرك جسده وهنا السيارات تفقد السيطرة والقيادة ويتم عملية الحادث.

أتابع الركض ولكن قبل أن أتجاوز جارتي رأينا سيد ” بكو” والذي يحمل كمية كبيرة من الشيء الغريب في عربة النقل المنزلي ومتجهاً نحو المنزل وهنا رمت جارتي سؤالاً له: هل مات أحد؟ لا أعلم يا خالتي، ولم أنتبه لأحد سوى هذه،

يا ربي سترك …. الجارة المسكينة أظنها الوحيدة للآن تفكر بالسائق، تجري الأحداث والأهالي إياباً وذهاباً حاملين أكياساً، والهواجس تأخذني تارة للسائق وتارة للشيء الغريب، هنا لا أبرز العمل الفكري الوحيد في أمر السائق وإنما بحكم تكرار مثل هذه المواقف مثل صورة سائق الغنم قبل عام من الآن ما يزال معلقاً بين خطوط الجمجمة…

حمو” متجهاً نحوي رجوعاً، ماذا أفعل؟ هل سيتشاجر معي مجدداً؟ جهزتُ اللكزة مع خوف ورجفة، ينادي “حسون” ويبتسم، لأول مرة يبتسم لي ويناديني بلطفٍ، بادرته بابتسامه: ماذا؟ “حسون” ألحق نفسك وخذ كمية أيضا، جميع رفاقنا أحذوا منها، أعتقد إنه قصد الشيء الغريب الذي للآن لم نعرفه ماهيته، أجل أنا ذاهب، وكلانا يسلك طريقه، ومن ثم اسمع صوته من بعيد: سأعود قريباً لأملئ الكيس أبقى هناك وإلا سأضربك.

مثل هذه اللكنة في صوته سمعته البارحة وأدى لمشاجرة كالمصارعين

حسناً حسناً … أكملتُ الركض دون النظر إليه.

أشخاص من القرى المجاورة مجتمعين حول الحادثة، لا لا أقصد حول الشيء الغريب وهم أيضاً يبادرون في أخذها، سيارات الإسعاف أخيراً أتت وبادرت بسرعة في نقل السائق، الخبر الجيد أنه بخير والخبر السيء الشيء الغريب تم عملية المسح عليه.

كيوي، كيوي …… صدر الصوت من شخص نزل من سيارته، يبدو أنه من المدينة ويعرف أسماء الأشياء الغريبة أكثر من أهالي القرية،

هل يأكل هذا الشيء الذي تتدعيه كيوي؟ سأله أحد الأهالي.

أجل أنه لذيذ …… عمل على تعبئة صندوق سيارته من الخلف.

بعد معرفة اسمها أخيراً وتوزيعها على الأهالي بطريقة ذاتية، لم يبقى هناك أحد وكان المطر ينهمر وقتها،

أين كنت يا ولدي؟ طعنني سؤال والدي مثل رصاص القناص دون سابق إنذار محملاُ بكمية لا بأس بها من الغضب.

كنت هنا، لا كنت هناك، لم أستطع النظر في عينيه، لا أعلم لماذا، هل كان يا ترى خائف علي من المرض، أم خوفاً من شيء مكروه يحصل لي؟

أذهب وغير ثيابك قبل أن تمرض وأدرس. -هنا رصاصة أخرى-.

حسناً، حسناً ….

دخلتُ الغرفة الثانية لأغير ملابسي المبللة، ماذااااااااااا؟ ثلاث أكياس متوسطة الحجم مليئة بالكيوي، لم أنتبه للعائلة في مكان الحادث، الفضول جذبني لألمسها لا أعلم لماذا، وفجأة يرن الهاتف. تبين أنه أحد أقربائي.

سيأتي “سمو” ليأخذ كيس ويذهب إلى المدينة، يقولها والدي بعد أن أغلق السماعة، إننا لا نأكلها لماذا نشتمل عليه، لم يكن لذيذاً كما يدعون،

هنا أصدر صوتاً خافتاً لم يسمعه أحد: ربما يلزمها أيام لتنضج،

استمر الوضع أسبوعاً هكذا، وبقي كيساً صغير في زاوية الغرفة، وأخيراً عرفنا أنه يمكننا الآن أكلها لأنها نضجت. ياللفرحة …………..

قصة شاحنة الكيوي تحدث عنها العالم وأصبحت حكاية من حكايات المفرق، لا أتذكر زمنها جيداً ولكنها كانت قبل حادثة شاحنة الغنم هناك، لم يكن الأمر متوقف فقط على الكبار وإنما أيضاً نحن الصغار كنا نتحدث عنها حيث كنا نجلب كل يوم قطعة واحدة من الكيوي ” لحمو” كي لا يجلب لنا المشاكل.

قرابة غروب الشمس في يوماً ما لا أتذكره، بحث عني والدي وأخي الكبير كثيراً إلى أن وجدوني مع بقية الصغار على مفرق القرية رافعين يدينا وندعو أن تمر من هنا شاجنة موز كما الكيوي ونقول: ” يا رب هذه المرة موز ” يا رب موز.

 

بقلم حسين كري بري

فنان تشكيلي مقيم في المانيا

2017

عن Xalid Derik

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

x

‎قد يُعجبك أيضاً

القيم الاجتماعية في عشيق الليدي تشاترلي للكاتب دي اتش لورنس/ محمد عبد الكريم يوسف

في رواية دي إتش لورانس المثيرة للجدل، عشيق الليدي تشاترلي، يلعب موضوع ...

آهٍ إن قلت آها / بقلم: عصمت دوسكي

آه إن قلت آها لا أدري كيف أرى مداها ؟ غابت في ...

الكتابُ … / بقلم: أحمد بريري

  الكتابُ خيْرُ صحْبي فيهِ تلقَى المعْلوماتِ منْ علومٍ وقرِيضٍ وتاريخِ الموجوداتِ ...

أحلم بعيون ذكية / بقلم: سامح أدور سعدالله

أحلم بعيون ذكية أتغمض عيناي الغبية  ذكائي؟ تلك هي المعادلة التي تحتاج ...

قصيدة”سكارى بالكرة” للشاعر مصطفى معروفي/ بقلم: عبد الرحمن منصور

1ـ القصيدة: سكارى بالكرة شعر:مصطفى معروفي نظـلُّ بهـا علـى وهْــمٍ سـكـارى***و قد ...

الفصام / بقلم: عــبــدالناصر  عــلــيوي الــعــبيدي

  ———- الــصدقُ فــي الإنــسانِ خيرُ فضيلةٍ فــــعــلامَ تــكــذبُ أيــهــا الــكــذابُ – ...

أشياؤها الخمس / بقلم: فراس حج محمد

  [محاولة رثاءِ امرأةٍ ضاعت في جنون الحرب]   أشياؤها الخمسُ التي ...

الأخلاق في رواية عشيق السيدة تشاترلي للكاتب دي إتش لورانس / بقلم:محمد عبد الكريم يوسف

  أثارت رواية دي إتش لورانس “عشيق السيدة تشاتيرلي” الجدل والنقاش منذ ...

واحة الفكر Mêrga raman