الرئيسية / مقالات / على نهد جهنم/ بقلم: محمد عبد الكريم يوسف

على نهد جهنم/ بقلم: محمد عبد الكريم يوسف

 

 

 

 

 

 

 

 

على نهد جهنم

بقلم: محمد عبد الكريم يوسف

…………….

عندما نسأل المغامرين عما يدفعهم لسلوك طريق المغامرة يبتسمون ويقولون: ” نريد اكتشاف الأفق.” وبعد اكتشاف الأفق يبحثون عن الأفق الذي بعده. هناك شيء ما يسكن أرواحهم ويدفعهم نحو المجهول ولو كان خلف البحار السبعة وهو اكتشاف الذات. وعندما ينتهي المغامر من مغامرته يكتشف أنه رأى كل شيء إلا لون عينيه. ويتقن الفلسفة التي تقول: غريبا كنت وغريبا عشت وغريبا ستظل للأبد.

للمغامرة أصناف وأنواع شتى. فسكان بعض المدن الأمريكية يتعرضون كل عام للأعاصير ورغم ذلك لا يهجرون قراهم ومدنهم رغم ما يعانون من أهوال الطقس من أمطار ورياح. وهناك المستكشفون الأوائل الذين جابوا أغوار الأدغال في أفريقيا وما تعرضوا من أهوال الموت والمرض والحشرات والضواري. وهناك سكان مدينة بومبي الإيطالية على سفوح جبل فيزوف الذين تمسكوا بموطنهم رغم الأهوال بل كانوا يعيشون حالات مفرطة من الترف المتطرف لدرجة الانحراف ولا يأبهون بشيء.

 

ركوب الخطر عريق الجذور لدى الإنسان. والناس تتداول أعمال البطولات والمغامرات في شغف وشوق وتلذذ. ويتلمظون لطعمها وممارستها رغم طعمها اللاذع الرهيب يتناقلونها من جيل إلى جيل حتى تصبح أساطير. مدينة بومبي ليست أسطورة. إنها حكاية شعب ملعون من أعلى شعرة في رأسه وحتى أخمص قدميه عشق المغامرة والحب والمعرفة والشغف والتكنولوجيا وما إن تزور المدينة اليوم حتى تدرك أن الله حق وستكون أكثر إيمانا وأكثر خوفا من النار. إن مدينة بومبي عظة لمن يريد أن يستدرك ما فاته من إيمان وتقوى.

يحكى أنه كان هناك مدينة قديمة تقع جنوب ايطاليا بالقرب من مدينة نابولي الحالية تسمى بومبي. بنيت المدينة على قمة جبل فيزوف الشهير وهو أحد البراكين الأوروبية التي لا تزال نشطة. كانت مدينة بومبي مزدهرة في الفترة الواقعة بين القرن السابع قبل الميلاد وحتى عام 79 بعد الميلاد وهو تاريخ اختفائها عن الوجود وموت كامل أهلها وتحجرهم.  يبدو للمتابع اليوم للمدينة العريقة أنها لا تنتمي للعصر الذي عاشت فيه ناحية الرقي والتقدم والثقافة والمعرفة والعادات والتقاليد. لقد كان التصميم المعماري والنظام الرائع والمتطور للري والطرقات وتوزيع المياه والمنتديات والملاهي والمراكز الثقافية وبرك السباحة والحمامات العامة والمراكز الرياضية والمعابد والأبنية الحكومية الفارهة وحيث ذهبت تجد على الجدران اللوحات الفسيفسائية المدهشة التي أبدعها عالم الفن المدهش في تلك المدينة ويذكر المؤرخون أن سكانها كانوا يجنون محاصيلهم الزراعية ثلاث مرات العام. كانت المدينة مقصدا ومنتجعا للأغنياء في كل مكان من أوروبة.

في الخامس من شباط عام 62 م تعرضت المدينة الغارقة في احتفالاتها الدينية لزلزال رهيب حطم كل شيء في المدينة بدءا من مصابيح الشوارع إلى الأبنية الفارهة والمعابد الشامخة وتعرضت بومبي للسلب والنهب من اللصوص. كان الزلزال إشارة تحذيرية للمدينة الغارقة في اللهو والترف وبعد انتهاء الزلزال عاد من سكانها من بقي حيا وعادوا للبناء من جديد. استمر البناء حوالي 17 عاما بين عامي 62 و79 م ثم أعيد كل شيء على ما كان عليه. ثم عادت إلى حياتها السابقة من الترف والمجون والرفاهية المطلقة. لم يكن أحد من سكانها يتوقع ما ينتظرها من مصير أسود.

وفي العشرين من أب عام 79 19م حدث ما لم يكن بالحسبان. بدأت الأرض تتشقق وتحولت مياه الخليج المجاورة إلى وحش غاضب واضطربت الحيوانات والزواحف والطيور ورغم هذه الإشارات الغامضة استمر سكان المدينة يمارسون حياتهم العادية وكان اليوم التالي مكرس للاحتفال فولكالانيا إله النار والبراكين عند المدينة. وانشغل الناس بالسكر والعربدة والمجون إلى ساعة متأخرة من الليل. وفي صباح 24 أب عام 79 م كان الناس نيام. لم يشعر أحد أن البركان العظيم بدأ يرمي حممه وناره على المدينة ورماده البركاني على المدينة. حل الظلام ولم يستيقظ أحد ومسحت مدينة بومبي وعدة مدن أخرى مجاورة للبركان عن الوجود. يبدو أن الصعقة التي حدثت قد جمدت كل شيء في مكانه وتحول الناس إلى حجر لا حياة فيه.

بقيت المدينة مجهولة لا ذكر لها مثل اطلانتس إلا في كتب المؤرخين وقصائد الشعراء ومسرحيات شكسبير التاريخية. بقيت المدينة المدفونة بالرماد البركاني قرابة 1700 عام مختفية عن المسرح العالمي. وفي عام 1748 م بدأ المستكشفون رحلة البحث الطويلة عن مدينة السراب والأساطير والجمال وكانت المفاجأة أن الناس فيها متحجرون فيهم من هو نائم وفيهم من يمارس الجنس وفيهم من يحاول الهرب. المكتشفات الأثرية عن المدينة تجعلك تقف مشدوها أما هول ما حدث.

السؤال هو: لماذا لم يحاول سكان بومبي الابتعاد عن نهد جهنم هذا؟

وحدها روح المغامرة والمخاطرة هي من دفعهم للبقاء.

روح المغامرة واكتشاف الذات ….

 

بقلم محمد عبد الكريم يوسف

 

عن Xalid Derik

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

x

‎قد يُعجبك أيضاً

القيم الاجتماعية في عشيق الليدي تشاترلي للكاتب دي اتش لورنس/ محمد عبد الكريم يوسف

في رواية دي إتش لورانس المثيرة للجدل، عشيق الليدي تشاترلي، يلعب موضوع ...

آهٍ إن قلت آها / بقلم: عصمت دوسكي

آه إن قلت آها لا أدري كيف أرى مداها ؟ غابت في ...

الكتابُ … / بقلم: أحمد بريري

  الكتابُ خيْرُ صحْبي فيهِ تلقَى المعْلوماتِ منْ علومٍ وقرِيضٍ وتاريخِ الموجوداتِ ...

أحلم بعيون ذكية / بقلم: سامح أدور سعدالله

أحلم بعيون ذكية أتغمض عيناي الغبية  ذكائي؟ تلك هي المعادلة التي تحتاج ...

قصيدة”سكارى بالكرة” للشاعر مصطفى معروفي/ بقلم: عبد الرحمن منصور

1ـ القصيدة: سكارى بالكرة شعر:مصطفى معروفي نظـلُّ بهـا علـى وهْــمٍ سـكـارى***و قد ...

الفصام / بقلم: عــبــدالناصر  عــلــيوي الــعــبيدي

  ———- الــصدقُ فــي الإنــسانِ خيرُ فضيلةٍ فــــعــلامَ تــكــذبُ أيــهــا الــكــذابُ – ...

أشياؤها الخمس / بقلم: فراس حج محمد

  [محاولة رثاءِ امرأةٍ ضاعت في جنون الحرب]   أشياؤها الخمسُ التي ...

الأخلاق في رواية عشيق السيدة تشاترلي للكاتب دي إتش لورانس / بقلم:محمد عبد الكريم يوسف

  أثارت رواية دي إتش لورانس “عشيق السيدة تشاتيرلي” الجدل والنقاش منذ ...

واحة الفكر Mêrga raman