الرئيسية / قصة / نــورا …/ بقلم: لمياء نويرة بوكيل 

نــورا …/ بقلم: لمياء نويرة بوكيل 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

نــورا …/ بقلم: لمياء نويرة بوكيل 

________
ينتشي.. إنه ينتشي كلما امتلأ المحل وازداد حركة وصخبا، يرحب بضيفاته بوجه بشوش صبوح ويغدق عليهن القبل البريئة ويبالغ في الاحتفاء بهن ومغازلتهن بصوت منغم رقيق :
– أهلا أهلا، أشرقت الأنوار يا مدام، يا له من غياب طويل، اشتقنا إليك
– يا مرحبا يا مرحبا …يااااه ما أحلاها تسريحتك، أرأيت كم هي لائقة بك القَصة الجديدة ؟ ذلك حتى لا تترددي أبدا في أن تدعي رأسك بين يدي
– مدام فادية؟ مرحبا – ويضيف غامزا بطرف العين – عندي لك اليوم مفاجآت جميلة وأخبار طازجة عن آخر الصيحات..
يحتفي بهذه ، ويمازح تلك ، ويُجلس أخرى واعدا بأذهل النتائج، ويبجل ذات الحظوة ويعتني بالحريفة الجديدة، يحسن استقبال الجميع ويريحهن حتى يرتفع الحرج عن أغلبهن فتتغافل المتحجبة عن وشاحها الذي سقط عن رأسها، وترتخي أخرى في كرسيها وقد لفت ساقا فوق ساق دون قلق وقد كشفت عن بعض من غض فخذيها.. لم يكن ذلك يحرجهن فنظراته لا تشبه تلك النظرات الذكورية المتحرشة، نظراته صديقة لا تتجاوز تفاصيل الشعر والوجه، تفاصيل ينظر إليها بعين مهنية بحتة ، وهو يطوف القاعة الفسيحة ينظم العمل بين الصبايا يوزع عليهن المهام ويجمع الخراج بين حين وآخر.
بعد أن يطمئن إلى حسن سير العمل يتفرغ هو لأصعب مهمة لذلك اليوم، يلبس الحريفة مئزرا أسود ويدفع كرسيها برفق أمام المرآة العريضة المواجهة لها ثم يسدل شعره الحريري الفاحم السواد إلى الوراء بحركة خفيفة تحرر جبينه الناصع مما قد يشوب الرؤية أمامه، يصب بعض القطرات من سائل لزج مطهر يضمن الطمأنينة في نفس الحريفة إلى نظافة المحل والتزام الحيطة الشديدة فيه، ثم يفرك يديه جيدا، ويتوقف الهزل والمرح فجأة ويٌلبس وجهه الحزم والجدية والتفاني ويسلم إلى تلك الأنامل المرنة الحاذقة الرشيقة المتمرسة، تداعب الخصلات المتمردة فترفعها وتجذبها بلا وجع، تحففها أو تقصها تبللها أو تصبغها، تجففها بحرارة ودفء ناعم، تبسطها أو تلفها ثم ترخيها وتسدلها صرعى على الرقبة أو فوق الكتفين..
ساحر هو عجيب، تذعن له كل الخصلات طائعة، فلا تعاكسه شعرة واحدة.. تماما كما تطيعه صاحبات تلك الرؤوس التي يسري بها مفعول سحره فيمر كالخدر في عروقهن وبصرهن فتنبهر كل حريفة بالنتائج وتراها مذهلة، ويزداد الانبهار لما يطلق هو لسانه حالما تتوقف أنامله فيمدح ويغازل ويرفع الصوت مهللا، فترى القبيحة الجمال أخاذا فيها والتسريحة الغريبة “لوكا” جديدا مبهرا، ولا تخرج من القاعة إلا وقد رضيت فأغدقت وأجزلت العطاء وقابلت كرم الاحتفاء والاعتناء بكرم نقديّ أوفر …
منذ التحق “نورالدين” أو بالأحرى “نورا” بالصالون صارت مدام “بية” مرتاحة البال تسلم له القاعة وإدارتها وخزنتها بكامل الثقة، بل صارت تقلل من زيارتها لأنها بين أياد أمينة، فلقد أحكم القبضة على كل الأمور الفالتة قبله، فما عادت الصبايا يختلفن ويتعاركن فيما بينهن، فيما أصبح استعمال مواد التجميل أكثر ترشّدا، وتحسنت الخدمة وازداد عدد الحريفات وراجت كل تلك المواد المستحدثة رواجا باهرا، وما عادت سلعة تركد ابدا ، فتلك الرموش الاصطناعية بأنواعها وجدت مكانها فوق تلك الجفون الحالمة بالمجد والاهتمام ، وتلك الأظافر المزيفة المختلفة الأطوال والأحجام استقرت فوق العديد من الأنامل المرهقة المتقصفة أظافرها الحقيقية من ضنك الخدمة وعمل المطبخ …
كان نورا مخلصا في العمل متفانيا متقنا أمينا، وقفته في الصالون بوقفة ألف رجل … يمر النهار خفيفا فلا يكل برغم طول ساعات الوقوف والطواف في الغرف الثلاث، ولا يمل فمه الابتسام والمجاملة والحفاوة ولا تشكو أنامله الرقيقة الخدمة وقسوة المواد الكيميائية، بل لكم كان يرتاح ويستمتع بصحبة تلك الكائنات اللطيفة التي ترد اللطف بلطف أكبر والتي استطاعت أن ترى فيه الخصال الحميدة وعمقه الجميل، فلا نظرة مسترابة ولا حكم قاسيا ولا خلفية مؤلمة، هنالك كان يشعر بأهميته وحزمه وجدواه وبرجولة لا يكتسبها ذكور كثيرون..
تغادر آخر الحريفات الصالون ثم الصبايا، فيما يفرغ هو للحساب: يحدد خراج اليوم ويحفظ الخزينة ويطمئن إلى أن كل شيء مرتب ومحفوظ في مكانه، قبل أن ينزع عنه مئزه الأبيض الضيق ويضع جيلا فوق شعره ويحدث خطا مستقيما جانبيا ويسرح خصلاته ويصففها متلاصقة، ويبالغ في رفع طرفي شاربه الصغير حتى يبدوا مذببين .
يرتدي معطفه ويجذب الباب ويحكم إغلاقه ويسلك طريق العودة وهو يجاهد نفسه طوال السكة على استقامة مشيته وحزم خطوته وتثبيت ردفيه، فيمشي كذكر شديد، تماما كما يجب أن يراه الناس، وتماما كما كان أبوه يلقنه دون كلل وبلهجة آمرة موبخة:” اكبس روحك ، راك راجل”

القاصة لمياء نويرة بوكيل، تونس – 

عن Xalid Derik

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

x

‎قد يُعجبك أيضاً

القيم الاجتماعية في عشيق الليدي تشاترلي للكاتب دي اتش لورنس/ محمد عبد الكريم يوسف

في رواية دي إتش لورانس المثيرة للجدل، عشيق الليدي تشاترلي، يلعب موضوع ...

آهٍ إن قلت آها / بقلم: عصمت دوسكي

آه إن قلت آها لا أدري كيف أرى مداها ؟ غابت في ...

الكتابُ … / بقلم: أحمد بريري

  الكتابُ خيْرُ صحْبي فيهِ تلقَى المعْلوماتِ منْ علومٍ وقرِيضٍ وتاريخِ الموجوداتِ ...

أحلم بعيون ذكية / بقلم: سامح أدور سعدالله

أحلم بعيون ذكية أتغمض عيناي الغبية  ذكائي؟ تلك هي المعادلة التي تحتاج ...

قصيدة”سكارى بالكرة” للشاعر مصطفى معروفي/ بقلم: عبد الرحمن منصور

1ـ القصيدة: سكارى بالكرة شعر:مصطفى معروفي نظـلُّ بهـا علـى وهْــمٍ سـكـارى***و قد ...

الفصام / بقلم: عــبــدالناصر  عــلــيوي الــعــبيدي

  ———- الــصدقُ فــي الإنــسانِ خيرُ فضيلةٍ فــــعــلامَ تــكــذبُ أيــهــا الــكــذابُ – ...

أشياؤها الخمس / بقلم: فراس حج محمد

  [محاولة رثاءِ امرأةٍ ضاعت في جنون الحرب]   أشياؤها الخمسُ التي ...

الأخلاق في رواية عشيق السيدة تشاترلي للكاتب دي إتش لورانس / بقلم:محمد عبد الكريم يوسف

  أثارت رواية دي إتش لورانس “عشيق السيدة تشاتيرلي” الجدل والنقاش منذ ...

واحة الفكر Mêrga raman